العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله
◄ينطلق الناس إلى بيت الله الحرام ليؤدّوا الحجّ كفريضة فرضها الله على مَن استطاع إليه سبيلاً، أو كمستحبّ استحبّه الله لمن أدّى هذه الفريضة، أو لمن تطوّع بذلك.
ونحن نعرف أنّ الله عندما يكلّفنا بشيء، فإنّه لابدّ من أن يشتمل على الكثير ممّا يصلح حياتنا ويرتفع بمستوانا، سواء في الجانب الروحي أو الجانب المادّي منه، لأنّ كلّ التكليف الإلهيّ ليس شيئاً يخصّ الله، بمعنى أن يحصل له نفع من ذلك، بل هو من أجل أن تكون الحياة للإنسان أفضل وأغنى وأرحب وأقوم، وذلك هو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/ 24).
فالإسلام كلّه دعوة إلى الحياة، فكلّ ما أمرنا الله به، فهو ينطلق من عناصر حيّة تمنحنا روح الحياة وحركيتها وخطّها المستقيم، كما تنفتح بنا على حياة أُخرى أكثر خلوداً وأكثر نعيماً وأكثر سكينةً وأكثر طمأنينة (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 64).
مشقّة تعقبها سعادة
لذلك عندما نريد أن ننفتح على كلّ ما أمرنا الله به وما نهانا عنه، فعلينا أن لا نفكّر في أنّه عبء ثقيل علينا، يثقل أوقاتنا أو يثقل أجسادنا أو مشاعرنا، لأنّه في عمق معانيه، يفتح حياتنا على الأفضل، ونحن نعرف أنّ الإنسان لا يستطيع أن يحصل على العسل، إلّا من خلال إبر النحل «ولابدّ دون الشهد من إبر النحل»، وكذلك لا يستطيع أن يقطف الزهرة إلّا إذا جرحته الأشواك المحيطة بها. ولذلك، فإنّ الجراحات التي تجرح مشاعرنا أو أحاسيسنا أو أوضاعنا من خلال ما كلّفنا الله به هنا وهناك، ما هي إلّا وسيلة من وسائل اقتطاف وردة الرضوان الإلهيّ والنعيم الإلهيّ والسعادة الإلهيّة في الدنيا والآخرة، فالناس يقصدون بيت الله الحرام ليعيشوا ذلك من خلال مكابدة المشاقّ التي تفرضها المناسك.
بدايات التأسيس
وقد حدّثنا الله عن خصوصيات هذا البيت، وعن ظروف تأسيسه، وعن روحية الشخص الذي أسَّسه وبناه، وعن الأُفق الواسع الذي كان يفكّر فيه ويحلم به ويدعو الله أن يحقّقه، وعن الخطّ الذي رسمه الله له في نهاية المطاف.
فلنبدأ مع القرآن الكريم، ومع إبراهيم (ع) (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة/ 125)، فالله أعدّه حتى يقصده الناس ويثوبوا إليه ويجلسوا عنده آمنين، كما أنّ الله جعله منطقة سلام في آية أخرى (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران/ 97)، فليس لأحد أن يعتدي على أحد في هذا البيت وبما يحوطه من الحرم الذي جعله الله آمناً ببركة البيت.
صلاة إبراهيم (ع)
ويقول تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة/ 125)، لأنّ إبراهيم هو الذي بدأ الصلاة هناك، ليشير إلى الناس قائلاً: تعالوا إلى الصلاة هنا، اتّخذوا هذا المقام مصلّى، لأنّه أطلق الصلاة من خلال هذا البيت، ولذلك، فإنّ كلّ صلاة تأتي من بعده تنفتح على صلاته. وصلاة إبراهيم (ع) هي الصلاة التي ليس فيها شيء للذات، وليس فيها شيء للجسد، وليس فيها شيء للناس (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 131)، (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 162-163)، فهي صلاة تنفتح على الله بكلّ عناصرها وبكلّ مواقعها.
ولذلك، يمكننا أن نستوحي من اتّخاذ مقام إبراهيم مصلَّى، أنّ صلاة إبراهيم هي النموذج الأعلى للصلاة فيما انطلقت الصلاة منه في التاريخ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) (البقرة/ 125)، باعتبار أنّهما اللّذان أسّسا البيت ورفعا قواعده.
تطهير البيت
عهدنا إليهما (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، وليس معنى «طهّرا» أي من النجاسة، بل أسِّساه طاهراً ليكون بنيانه على أساس الطهارة. والطهارة هنا قد لا يكون المراد منها ـ والله العالم ـ الطهارة من النجاسات، ولكن الطهارة من الشِّرك، فطهّرا بيتي، أي اجعلاه طاهراً من رجس الشِّرك، وبهذا قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (التوبة/ 28)، باعتبار أنّ الشِّرك يمثّل قذارة فكرية وقذارة روحية. وطهّرا بيتي أيضاً، اجعلاه طاهراً من كلّ رجس الأوثان، وقد عبَّرَ الله في آية أُخرى عن الأوثان بأنّها الرجس (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ) (الحجّ/ 30).
(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ) (الحجّ/ 29) بعيداً من كلّ حالة صنمية، بحيث إنّهم لا يتوجهون إلى البيت كما لو كان حجراً يستغرقون فيه، ولكن أن يتوجهوا إليه من خلال كونه يمثّل معنى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ) الذين يعتكفون في البيت للعبادة (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
التمنّيات الإبراهيمية
وعندما عاش إبراهيم هذا الجوّ وهذا العهد، انطلقت تمنّياته وأحلامه لهذا المشروع الذي أكرمه الله ببنائه (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة/ 126)، واجعله واحةَ سلام لا يقتل الناس فيه بعضهم بعضاً، ولا يعتدي بعضهم فيه على بعض، حتى إنّ الناس هناك لا يعتدون حتى على الحيوان إذا لم يكن حيواناً مؤذياً.
(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) (البقرة/ 126)، لأنّه قال في آية أخرى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) (إبراهيم/ 37)، لذلك أراد إبراهيم لهذا البلد الذي يقصده الناس ليطوّفوا به ويعتكفوا، أن يحصل على الثمرات التي تجذب الناس إليه، أو تمثّل شروط الحياة الطبيعية بالنسبة إليه (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (البقرة/ 126)، لأنّه لا يدعو للكافرين مع بقائهم على كفرهم (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ) (البقرة/ 126)، فكأنّ الله استجاب دعاءه، لكنّه استثنى مَن كفر (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة/ 126). وهنا أيضاً يحدّثنا الله عن إبراهيم بعد هذه الجملة المعترضة: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ) (البقرة/ 127) الأُسس (مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) (البقرة/ 127)، فكأنّهما عندما قاما ببناء هذا البيت، تعبّدا إلى الله وتقرّبا إليه بهذا الجهد الذي بذلاه، وأرادا من الله أن يتقبَّل منهما (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) (البقرة/ 127) الذي تسمع دعاءنا (الْعَلِيمُ) (البقرة/ 127) الذي تعلم ما نخفي في سرنا.
الثبات على الإسلام
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (البقرة/ 128) وهكذا نجد أنّهما، وهما المسلمان، يريدان من الله سبحانه وتعالى أن يجعلهما مسلمين، بمعنى أن يتحرّك الإسلام في حياتهما إلى نهاية حياتهما، فلا يعرض عليهما شيء يختلف عن خطّ الإسلام (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (البقرة/ 128)، وهذه هي المسألة التي نستوحيها من إبراهيم وإسماعيل، وهي أنّ على الإنسان أن لا يفكّر فقط في أن يكون هو مسلماً، بل لابدّ له من أن يفكّر في امتداد الإسلام في ذريته، لأنّ ذلك هو الدلالة على عمق الإسلام في شخصيته، بحيث يصبح الإسلام طموحاً وهدفاً وغايةً، وليس مجرّد شيء شخصي، ولهذا قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ).
(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَاً) (البقرة/ 128) يعني الفروض العبادية التي نعبدك فيها، خطّط لنا يا ربّ فروض الحجّ ومناسك الحجّ (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة/ 128)، وكانا يفكّران ربّما من خلال بعض الإيحاءات التي كانا يستوحيانها ممّا أنزله الله عليهما، أنّ هناك رسولاً سيُبعث حتى يحمل الرسالة (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة/ 129)، وهذه هي التمنّيات الإبراهيمية ـ الإسماعيلية التي كانا يشرفان من خلالها على العهد الذي أُرسل فيه رسوله، وهو من ذرّية إبراهيم وإسماعيل، حيث انطلق ليتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وبذلك استجاب الله لإبراهيم (ع) كلّ ما طلبه ممّا يختصّ به وبذرّيته وبأهله وببلده وبالرسول.
ملّة إبراهيم
لذلك، اعتبر الله سبحانه وتعالى ملّة إبراهيم، هذه الملّة المنفتحة على الإسلام العقلي والقلبي والقلبي والروحي واللساني والجسدي كلّه، اعتبرها هي الملّة الأساسية التي خطّطت لكلّ الرسالات التي جاءت من بعده.. ولذلك أيضاً، قال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة/ 130)، لأنّ الله اصطفاه نبياً ورسولاً وإماماً وخليلاً وهو في الآخرة من الصالحين (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). وهذا هو الإسلام العام؛ الإسلام المطلق الذي يفرض على الإنسان أنّه عندما يقف أمام ربّه، فعليه أن يسلم كلّه لربّه، وأن لا يكون هناك شيء خارج إرادة ربّه.►
المصدر: كتاب الندوة/ ج4
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق