من معينات فهم القرآن الكريم وأُسس الإفادة منه "حضور القلب"، فكيف يفتح القرآن كنوزه لقلبٍ غافلٍ غير يقظان، أو لاهٍ مشغول عن عطائه وفيضه.. إنّ القلب إذا حضر عند سماع القرآن، أو تلاوته وقراءته، فُتحت أمامه مغاليق الفهم، وتبدّد لديه كسف الظلام، فإذا بنور القرآن يسري في عقله وقلبه وروحه ودمه؛ فيجعله إنساناً آخر؛ إنساناً قرآنياً يتحرك بالقرآن في شغله ومحياه، ومصبحه وممساه.. تتماسك أمامه القيم، ولا تنفلت من بين يديه المعايير.
وقد ذُكر في قوله تعالى: (يا يَحيَى خُذِ الكتابَ بِقُوّةٍ) (مريم/ 12)؛ أي بجد واجتهاد، وأخذه بالجد: أن يكون مجرداً له عند قراءته، منصرف الهمة إليه عن غيره، وقد قيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن، هل تحدّث نفسك بشيء؟ فقال: أو شيئاً أحب إليَّ من القرآن حتى أحدث به نفسي؟ وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية، وهذه الصفة تتولد عن صفة التعظيم لكلام الله تعالى؛ فإنّ المعظِّم للكلام الذي يتلوه يستبشر به، ويستأنس له ولا يغفل عنه، وفي القرآن ما يستأنس به القلب، إن كان مَن يتلوه أهلاً له، فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره وهو في متنزه عنه؟! والذي يتفرج في المتنزهات لا يفكر في غيرها، فقد قيل: "إنّ في القرآن ميادين وبساتين ومقاصير وعرائس وديابيج ورياضاً وخانات، فإذا دخل القارئ الميادين، وقطف من البساتين، ودخل المقاصير، وشهد العرائس ولبس الديابيج، وتنزه في الرياض، وسكن غرف الخانات، استغرقه ذلك، وشُغل به عما سواه، فلم يعزب قلبه، ولم يتفرق فكره".. وهو توصيف راقٍ من "حُجّة الإسلام" لحضور القلب ويقظته، وعدم مبالاته بما سوى القرآن أو الاعتناء بما عداه.
- المدارسة:
وهي صورة من صور الرغبة في تفهُّم القرآن الكريم، والوقوف على حروفه وحدوده، واستنباط حكمه وأسراره، وقيمه ومعانيه، وهذا ما حث عليه النبيّ (ص)، ورغّب فيه بقوله: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم إلّا غشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده".
والمدارسة لون من ألوان اختزال الفكر، واستدعاء المعاني والاجتماع على مائدة قرآنية واحدة، يقطف منها أصحاب ثقافات متعددة، يأخذون منها ما تطيب به نفوسهم، وتصح به عقولهم، وقد كان أصحاب النبيّ (ص) يتدارسون القرآن، ويعيشون حوله بل به..
فهذه المدارسة تعين على توقد الذهن، وحضور العقل، وتكامل الفكر؛ حتى يفيد المتدارسون للقرآن أكبر فائدة، فقد قال ابن عباس (رض): "الدراسة صلاة"، وقال ابن مسعود (رض): "تذاكُر العلم بعض ليلة أحبُّ إليَّ من إحيائها"، ونُقل عن ابن القيم قوله: "ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها، فالمذاكرة بها لقاح العقل".
- صدق الطلب:
ولا شك أنّ صدق القلب والإخلاص والإلحاح في طلب الفهم طريق موصِّل إلى المراد، فإنّهم قالوا: مَن أكثر من الطرق أوشك أن يُفتح له.. مَن تدبر القرآن طالباً الهدى فيه تبيّن له طريق الحق، ولِمَ لا والقرآن لا يرضى بأن يكون له من الناس فضل الأوقات، ولا فضل العزمات، وإنما يرضى بأن تعطيه كلّك حتى يكشف لك عن بعض كنوزه وعطاياه.. ومن صدق الطلب إدامة النظر فيه، والتفكّر في كلماته وراميه.
- سلامة التلاوة:
إنّ سلامة التلاوة طريق إلى سلامة الفهم، وإتقان الأداء باب موصِّل إلى التدبُّر والتفكّر، والترسّل في القرآن بترتيل وترتيب معين من معينات الفهم، ولأمرٍ ما كان جبريل (ع) يعارض النبيّ (ص) بالقرآن في كلّ عام مرةٍ، فلما كان العام الذي تُوفِّي فيه (ص) عارضه بالقرآن مرتين.. ولذلك، قال السيوطي في إتقانه: "إنّ التحقيق يكون للرياضة والتعلم والتمرين، والترتيل يكون للتدبُّر والتفكّر والاستنباط".
ولا شك أنّ الترسّل في القراءة والتمهّل بها يعين على فهم القضية المترابطة، والمعنى الواحد الذي لا يكتمل إلّا باكتمال جزئياته، وقد استحب العلماء الترتيل لأنّه معين على الفهم، كما ذكر "حُجّة الإسلام" ذلك في إحيائه وهو بعدد آداب القراءة، فيقول: "الخامس: الترتيل، وهو مستحب في هيئة القرآن؛ لأنّ المقصود من القراءة التفكّر، والترتيل معين عليه ".
كما أنّ القراءة بترتيب تعين أيضاً على الفهم والتدبُّر، وذلك للترابط الموضوعي الذي هو لون من ألوان الإعجاز القرآني، فإنّ كلّ آية مع أختها تمثل ربطاً بديعاً ورصفاً محكماً يضيع جماله بتقطيعه، وكلّ آية مع أختها لُحمة واحدة؛ تمهد السابقة للاحقة، وتؤكد اللاحقة على السابقة في تناغم واتساق، وكذلك ترتيب السور بعضها بعد بعض لحمة وغاية، حتى قال الإمام النووي (رحمه الله): "الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف، فيقرأ الفاتحة ثمّ البقرة ثمّ آل عمران ثمّ ما بعدها على الترتيب، وسواء قرأ في الصلاة أو في غيرها.. ويُستحَّب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التي تليها، ودليل هذا ترتيب المصحف، إنما جُعل هذا لحكمة ينبغي أن يحافظ عليها إلّا فيما ورد الشروع باستثنائه؛ كصلاة الصبح يوم الجمعة يقرأ في الأولى سورة السجدة، وفي الثانية سورة الإنسان ونحو ذلك".
وخلاصة القول: إنّ الترسّل في القراءة يؤدي إلى ضبط معانيها وإدراك أهدافها، والترتيب فيها يؤدي إلى ترابط أهدافها وظهور مقاصدها واتضاح معانيها واكتمال فكرتها في ذهن القارئ والسامع.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
Hesham Sayed
السلام عليكم و رحمة الله ارجوا الزيادة فى فوائد حضور القلب و الطريق الموصل