• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

علاقة المراهق بأهله

محمد حاوي

علاقة المراهق بأهله

◄تشغل مسألة إقامة علاقات سليمة مع الأهل والراشدين مكاناً بارزاً بين المهمّات النمائية الأساسية للمراهق. وليس من السهل على المراهق الذي اعتاد طيلة حياته السابقة أن يكون اتكالياً، واستغرق مع أهله في علاقات أعطته دوراً ثانوياً، أن يتحوّل إلى ذات مستقلة قادرة على تحريك الأشياء بإرادتها. ولابدّ للمراهق، من أجل ذلك، أن يحقق أوّلاً استقلاليته عن والديه وعن الراشدين وأن يقيم تقييمه المتكامل لذاته، إنّ عليه بلغة مجازية، هجر أرض والده، والبحث لنفسه عن أرض جديدة يبني عليها وجوده الخاص.

يعني فطام المراهق عن والديه بلوغه مكانة يقف فيها على قدميه، ويختار ولاءاته وقيمه بنفسه، وينساق مع أفكاره الفردية، ويبني نظرته الخاصة عن الحياة. وإذا ما مشت الأمور في مساراتها الطبيعية وتمكّن المراهق من إثبات وجوده في عالم الراشدين، فإنّه سيكون قادراً على ممارسة اختياراته الخاصة وستنفتح أمامه فرص كبيرة لتحقيق ذاته ومجابهة سلسلة لا متناهية تنتظره على درب حياته الطويل.

إنّ ما يتطلع إليه المراهق من استقلال عن أسرته يعتبر أعظم الأحداث في حياته، وفيه يختبر المراهق مقدار استقلاله الذاتي. وأبرز ما يتصل بتفكير المراهق في الانفراد عن الأسرة هو أنّ تفكيره هذا إنّما هو نتاج تغيُّرات إيجابية ناشئة عن علاقته بآخرين غير الأبوين من أفراد أسرته، ولعلّ هذا الاتجاه يمثل أحياناً تدهوراً في علاقته بسائر أفراد أسرته، ذلك لأنّه يكون قد غيّر شيئاً في اتجاهاته ويكون قد كوّن علاقات مع آخرين خارج نطاق أسرته. ويكون كذلك قد نقل ولاءه ومعاييره الجديدة وكيان ذاته الجديد إلى أفراد قد لا تعرف عنهم الأسرة شيئاً أحياناً.

ولعلّ أوّل مَن يأتي في حياة المراهق حال نشدانه الانعزال عن عائلته، هم لداته الذين يمثلون نفس النزعة التي ينزع إليها ويحملون ذات الاتجاهات التي تشربها على أنّ هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال أنّ المراهق يكون قد فصم عرى الصلة مع أسرته كلّها. فهو يحاول الإبقاء عليها بقدر ما يرى ضرورة لذلك، والسبب هو لأنّه يدرك جيداً بأنّ انفصاله التام قد يعرّضه إلى مشكلات لا يتوقعها.

ولكن في المستطاع تمتين العلاقة بين جانبي الأسرة ومراهقها، إذا ما تحلّى الأبوان أو ما يعوِّض عنهما بالأناة وبُعد النظر، فباستطاعة الأبوين الإبقاء على العلاقة إذا ما أدركا بأنّه في كثير من الأحيان تستحوذ على المراهق النزعة إلى الانفصال عنهما أو عن البيت كلياً لعوامل نفسية، فشيء من الحصافة ومجانبة التزمُّت الذي لا يكون في مكانه في كثير من الأحيان يشعره بأنّه محافظ على كيانه ويدرأ عن الآباء كثيراً من ظنون المراهقين بهم، الظنون التي عبّر عنها أحد المراهقين بقوله: "إنّ آباء اليوم يكثرون من فتح العيون على أبنائهم المراهقين، ولعلّ الأمر يكون هيناً لو أنّهم سمحوا لهم بشيءٍ من الحرّية".

رغم ما يساور المراهقين من رغبة عميقة في التخلص من الارتباطات العائلية، فلا يجدر السماح لهم في التمادي في هذا الاتجاه، وينبغي التحرُّر من تنمية هذا الضرب من الشعور لديهم. وأثر الأسرة على المراهق يتجلى في نواحٍ شتّى. فاعتباره لذاته إنما يترسّخ ويتوحّد من خلال الاتجاهات الإيجابية التي يبديها أفراد أسرته إزائه. فإذا ما أتاح له الأبوان شيئاً من تحمُّل المسؤولية مثلاً، فإنّه يشعر بأنّ لديه الكفاءة وأنّه موضع ثقة، وإنّ هما أشعراه بالعطف والحنان فإنّه يكتسب اتجاهاً يتمثّل فيه اللُطف والرقة ويشعر معهما بأنّه مرغوب الجانب.

وإن هما تخليا له عن بعض سلطتهما وعن سطوتهما المتزمِّتة إزاءه فإنّه ينشأ وقد جانَبَ كثيراً من التصرفات الصبيانية التي كثيراً ما تتصف بها المراهقة والطفولة قبلها. على أنّ هذا لا يعني بأية حال بأنّ المراهق لم يعد بحاجة إلى نصح أبويه والتزوُّد من خبرتهما في الحياة التي هو أحوج ما يكون إليها. فالمراهق كما هو معروف يتقمَّص شخصية أبيه وعلى هذا فإنّ هذا التقمُّص يفضي بالفرد إلى جوانب حسنة إذا كانت شخصية الأب صالحة ولعلّها تأخذ بالابن إلى مجالات سيِّئة إذا كانت شخصية الأب سيِّئة التكيُّف اجتماعياً. وإنّ الهيمنة المفرطة التي قد تفرضها الأسرة على المراهق من أفرادها تحرمه ولا شك من الانتفاع بالعلاقات الإيجابية مع زملائه وتمنعه من التمتع من منافع ما عساه يكتسبه من خبرة اجتماعية هو أحوج ما يكون إليها في مثل هذا الدور من حياته، على أنّه ينبغي التحرر من أن يرتمي في حضان زمر سوء تتلقفه، فلدى الأبوين المتنورين المتفهمين يجد المراهق القلق الحائر راحة وطمأنينة.

فما يدين به الأبوان من قيم وما يلتزمان به من مثل يكون له أبلغ الأثر في حياة الأبناء المراهقين. فالآباء الذين يلتزمون بمعايير سامية ويعتزُّون بقيم راسخة إنما يؤلفون معيناً لا ينضب من القوّة الروحية بالنسبة للمراهقين وهو يواجه حياة جديدة عليه مليئة بمتناقضات بعضها من صنع خياله الجامح وبعضها ما يراه متفاوتاً بحكم وجوده على مفترق سبل تصل بين الطفولة التي يحاول التخلص منها والمراهقة التي يعتقد معها بأنّه لا شأن له يشدّه إلى أسرته ما برح بأمس الحاجة إليها.

فباستطاعة جو الأسرة الملائم الأخذ بيد المراهق إلى تحقيق آماله في بلوغ مرحلة الرشد التي يصبو إليها بلهفة عميقة. فحيث تكون الثقة متبادلة بين الآباء وأبنائهم فإنّ هؤلاء الأبناء ينشأون وقد تركّزت لديهم الثقة بذواتهم التي تؤهلهم لتجديد كيانهم الوجداني. والمسألة تستلزم من غير شك شيئاً من الحكمة من جانب الآباء ممّا يخفِّف من وطأة الكبح التي كثيراً ما يجسمها المراهق.

فالمراهق وهو يحاول التوفيق بين حياتي الاعتماد على الآخرين والاستقلال عنهم، إنما يتوجب عليه أن يسلك سبيلاً وعراً حافلاً بالعقبات.

ولعلّ السؤال الآن هو ماذا ينتظر المراهق من أبويه؟ فهو يرغب أشدّ الرغبة في:

1-    أن يكون الأبوان موضع ثقته.

2-    أن يعبِّرا عن مدى ثقتهما به.

3-    أن يتركا له التصرُّف ضمن حدود معقولة وأن يتوصّل إلى قرارات خاصة به نابعة من تفكيره.

4-    ألا يتدخّل الأبوان حتى في صغائر أُموره.

5-    أن تتصف تصرفات الأبوين وأقوالهما بحسن السياق وألّا تكون متناقضة لأنّ الأبوين له خير قدوة تحتذى.

6-    يتطلّع المراهق إلى التشجيع الدائب الصادر عن الأبوين.

7-    لا ينتظر المراهق من أبويه أن يجعلاه موضع شك وريبة، فهو يرغب رغبة متناهية في أن يلمس لديهما النظرة الإيجابية إزاءه.

8-    يطمح المراهق كذلك وهو في جو الأسرة إلى الاختلاء إلى نفسه ويميل إلى العزلة المؤقتة وهو بهذا لا يريد من يتدخل في شؤونه الخاصة به من أفراد أسرته.

فالعوامل الآنفة مجتمعة إنما تعكس مدى نموه ونضجه وتكشف عن حاجاته النفسية والطبيعية التي ينشدها ويصبو إليها.

ففي هذه العناصر كافة يجد ما يعوِّض عليه عن رغبته في الانفصال التام عن الأسرة والابتعاد عن جوها الذي يقدم عليه مكرها في أغلب الأحيان، كما أنّ توافر تلك العناصر المذكورة تنطوي على السماح له بتأكيد الذات التي تؤلف بالنسبة إليه مشكلة عملية، فهو لا يكف عن التنقيب عن تعريف مُطَمئِن يحدد له معالم ذاته كفرد راشد (كما يرى هو) يتمتع بمختلف الامتيازات التي يتمتع بها الراشدون من أفراد أسرته وسواهم.►

 

المصدر: كتاب التوجيه التربوي للمراهق وأثره على علاقته بأسرته

ارسال التعليق

Top