نأخذ من سيرة الإمام الحسن (عليه السلام) تلك السيرة المباركة كلّ ما نقتدي به من قول وسلوك وقيمة تسمو بها أرواحنا، وتنفتح بها عقولنا على الحقّ والعدل والخير في الحياة، فهم عاشوا لله، وارتفعوا من أجل تأكيد خطّ الله في الواقع. حيث كان (عليه السلام) ولا يزال صاحب المواعظ الحسنة التي أمر تعالى أولياءه بتلقينها للناس، وغرسها في قلوبهم حتى تنبت ثمراً طيِّباً، وتعطي حكمةً تمتدّ لتشمل كلّ مناحي الحياة.
ورُوِي أنّه كان الحسن بن عليّ (عليه السلام) عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك، وكان إذا صلّى الغداة في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، يجلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس، فيجلس إليه سادة الناس يسألونه عن أُمور دينهم، ويتحدّثون بين يديه، وكان إذا توضّأ للصلاة تغيّر لونه، وإذا وقف لها ارتعدت فرائصه، وإذا ذكر الموت أو القبر أو البعث والصراط يبكي حتى يغشى عليه، وإذا ذكر الجنّة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل الله الجنّة وتعوّذ من النار. وقد قاسم الله ماله ثلاث مرات، وخرج من ماله كلّه مرّتين، وحجّ خمساً وعشرين حجّة، وأنّ النجائب لتقاد بين يديه وهو ماش على قدميه يقول: «إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه ولم أمشِ إلى بيته»، وإذا رآه الناس ماشياً، ترجلوا إكراماً له، فإذا أعياهم المشي، جاؤوا إليه وقالوا: يا بن رسول الله، إنّ الناس قد أعياهم المشي على أقدامهم، فإمّا أن تركب بعض نجائبك ليركب الناس، أو تتنكّب الطريق، فإنّ أحداً لا تطاوعه نفسه أن يركب وأنت تسير على قدميك. فينحرف بمن معه عن الجادة، فإذا ابتعد عن الناس، ركبوا رواحلهم.
لقد اجتمع في الإمام أبي محمّد الحسن (عليه السلام)، بالاضافة إلى شرف النسب، ما ورثه من جدّه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبيه الوصي (عليه السلام) من العلم وكريم الصفات ما لم يجتمع في أحد من الناس، ووجد فيه المسلمون ما وجدوه في جدّه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أخلاق ومزايا وصلابة في الحقّ وتضحية في سبيل الله وخير الإنسانية، لقد جسّد الإمام الحسن (عليه السلام) أخلاق جدّه ومزايا جدّه وتعاليم الإسلام، وكان يذكرهم به من جميع نواحيه، فأحبّوه وعظّموه، وكان مرجعهم الأوّل بعد أبيه في كلّ ما كان يعترضهم من المشاكل، وما يستعصي حله عليهم من أُمور الدِّين، ولا سيّما وقد أطل المسلمون في عصره على فجر جديد وحياة جديدة حافلة بالأحداث التي لم يعرف المسلمون لها نظيراً من قبل.
وكانت آخر موعظة أطلقها الإمام الحسن (عليه السلام) في مرضه الذي توفي فيه نتيجة السّم، ما ذكره الرُّواة، من أنّ جنادة بن أبي أُمية قال له: عظني يا بن رسول الله. قال (عليه السلام): «استعدّ لسفرِك، وحصّل زادَك قبلَ حُلولِ أجلك. واعلم أنّك تطلبُ الدُّنيا والموتُ يطلبُك، ولا تحمل همَّ يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه. واعلم أنّك لا تكسبُ من المال شيئاً فوقَ قوّتك إلّا كنت فيه خَازناً لغيرك. واعلم أنّ الدُّنيا في حلالها حسابٌ، وفي حرامها عقابٌ، وفي الشبهات عتابٌ. فانزلِ الدُّنيا بمنزلةِ الميتِة، خُذْ منها ما يَكفِيك، فإن كانت حلالاً، كنت قد زَهدت فيها، وإن كانت حراماً لم يكن في وزرٍ، فأخذت منهُ كما أخذت من الميتة، وإن كان العقابُ فالعقاب يسيرٌ. واعمل لدنياك كأنّك تعيشُ أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموتُ غداً. وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج من ذلِّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّوجلّ. وإذا نازعتك إلى صحبةِ الرجالِ حاجةٌ، فاصحَب من إذا صحبتَه زانَك، وإذا أخذت منه صانَك، وإذا أردتَ منه معونةً أعانَك، وإن قُلت صدَّقَ قولك، وإن صلت شدَّ صولتك، وإن مددت يدَك بفضلٍ مدّها، وإن بدت منك ثلمةٌ سدّها، وإن رأى منك حسنةً عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتداك، وإن نزلت بك إحدى المُلِمّاتِ واساك، مَن لا تأتيكَ منه البوائقُ، ولا تختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منقسماً آثرك».
نقف لننهل من معين كلامه الذي يخترق النفوس، ويحرّك فيها كلّ أثر طيِّب، فهو يدعونا إلى عدم الانغماس في مظاهر الدُّنيا، وترك أمر الرزق لله تعالى، والتوكل عليه في معاشنا، وهجران الذنوب والشبهات كي لا نتعرّض للحساب، وإلى لزوم القناعة وترك المعاصي، ولزوم الطاعة ومُصاحبة الأخيار.
لقد تعرّض الإمام الحسن (عليه السلام) لتحدّيات كبيرة، حاولت ثنيه عن إكمال مسيرة الإسلام، والخنوع للواقع السيِّئ القائم، ولكنّ نفسه الأبية، وروحه العلوية، وشهامته الفاطمية، وانطلاقاً من مسؤولياته كإمام مفترض الطاعة، قام بكلّ ما يلزم حفاظاً على مصلحة الإسلام والمسلمين، على الرغم من كلّ تعقيدات الواقع وظروفه السياسية والأمنية الصعبة، فأعطى كلّ ما استطاع من نفسه في سبيل إبقاء كلمة الله هي العليا.
ونحن أمام هذه السيرة العطرة، ننحني أمام هذه الشخصية الإمامية المظلومة، التي لم تبحث عن شيء لذاتها، بل كان كلّ همها كيف تدير واقع الرسالة والمسلمين وتوصله إلى برّ الأمان. ونزداد بركة وخير ورحمة من هذه الشخصية السامية، حيث كلّ الغنى والسموّ والعزّة والكرامة، وكلّ الوعي والحكمة والتدبير.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق