الأخلاق في الإسلام منظومة حافلة متكاملة، فلماذا الصِّدق أولوية؟ لأنّه ما من عمل في هذا الدِّين إلّا وهو بحاجة إلى أن يُصدِّقه الصِّدق، في وقت يكثر فيه الكذب، والغش، والزعم، والادّعاء، والتلفيق، والتزوير، والتحريف، والتلاعب، والنفاق، ولذلك كانت دعوة القرآن صريحة في اعتبار الصِّدق أولوية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119). إنّ الصِّدق في الحديث والوعد والعمل يمثِّل الخطّ المستقيم الذي إذا تحرّك الناس معه فإنهّم يشعرون بالاستقرار والطمأنينة، بينما إذا تحدّث الناس بالكذب فإنّ الكذب يغيِّر الصورة عند الإنسان، فيتصرّف بطريقة قد يظلم فيها الناس والحقيقة والحياة. في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «إنّ العبد ليصدق حتى يُكتب عند الله من الصادقين، ويكذب حتى يُكتب عند الله من الكاذبين، فإذا صَدَقَ قال الله عزّوجلّ: صدق وبرّ، وإذا كذب قال الله عزّوجلّ: كذب وفجر». وفي الحديث عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): «يطبع المؤمن على الخلال كلِّها، إلّا الخيانة والكذب».
إنّ الدِّين صدقٌ وأمانة؛ صدقٌ مع الله وأمانة على الحياة، وصدقٌ مع النفس وأمانة مع النفس، وصدقٌ مع الناس وأمانةٌ مع الناس، أن لا تخونهم في قضاياهم العامّة والخاصّة. هذه هي القيمة الإسلامية التي يريد الله تعالى للمسلمين أن يأخذوا بها، من أجل أن يرتفعوا ليكونوا في مواقع القُرب من الله والإخلاص له وللناس وللحياة، وعلينا أن نربِّي أنفُسنا وأجيالنا على ذلك كلّه. هذا هو الخطّ الإسلامي، وهذا هو العنوان الكبير لشخصية النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يُبعث بالرسالة، فقد كان النبيّ في مجتمعه ـ قبل أن يكون نبيّاً ـ يُعرف بـ«الصادق الأمين»، حتى غلب هذا اللقب على اسمه.. الصِّدق أولوية في الأخلاق لأنّ به صلاحُ كلُّ شيءٍ، ولأنّه - كما رُوِي عن الإمام عليّ (عليه السلام) - أخو العدل، وكمال النُّبل، ولسانُ الحقّ، وخيرُ القول، و«إنّ مَن صَدقَ لسانه زكا عملهُ»، وبالتالي فإنّ مَن صَدقَ - كما في الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - نجا، أي إنّ النجاة في الصِّدق، ولكلّ قاعدة استثناءات. الصدق أولوية لأنّه عماد الإسلام، ودعامة الإيمان، ورأس الدِّين، وسيِّد الأخلاق، والصِّدق أولوية لأنّه (المعيار) و(المحكّ). يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل (الإنسان) وسجوده، فإنّ ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك؛ ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته». إنّهما محكّا اختبار أو معياران لمقياس درجة الإخلاص، وإذا كان الصِّدق قد غلب على القول، فإنّ الأمانة هي صدقٌ في العمل.
فالصِّدق قيمة أخلاقية كبرى يُقاس بها إيمان المؤمن، وتُعرف بها أصالته، ويتميَّز بها حضوره وأثره في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة.. فهو ميزان يضبط حركة المؤمن في علاقاته وفي كلّ أوضاعه، ويحقِّق له ذاته ووجوده الفاعل والحيّ والأصيل، ويجعل منه إنساناً يعيش روح الإيمان، وروح الالتزام، وروح المسؤولية، وروح الأخلاق السامية التي أراده الله تعالى أن يتّصف بها، فالله تعالى يقول في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب/ 70). والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ركّز في أحاديثه الشريفة على قيمة الصِّدق وأهميّته في الحياة الإنسانية، فيُروى عنه قوله: «إنّ الرجل لا يكون مؤمناً حتى يكون قلبه مع لسانه سواء، ويكون لسانه مع قلبه سواء، ولا يخالف قوله عمله»، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنّة لا يأمن جاره بوائقه». القول السديد هو القول الحقّ، بأن يلتزم المرء قول الحقّ، ويصدق في كلامه الذي يعبّر فيه عما يشعر ويرى ويسمع، فينطلق في إطلاق مواقفه، ولا يعبّر فيها إلّا عن الحقّ، فيجعل من الصِّدق ضابطاً لحركة أقواله، وبالتالي أعماله، ولا يخاف بالتالي أحداً، فهو يعرف حجم مسؤوليّاته، وأنّه المؤمن الملتزم بتعاليم ربّه وما يتوافق مع فطرته وأخلاقه.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق