• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عاملات الليل.. أمومة منقوصة

عاملات الليل.. أمومة منقوصة

ماذا تفعل الأُمّهات اللواتي تضطرهنّ ظروف الحياة إلى العمل في الليل بعيداً عن أطفالهنّ، أو اللواتي يعملن لإيمانهنّ بأنّ النجاح المهني، يوازي في أهميته الدور الأصلي للمرأة – الأم، كيف يتأقلمن مع حياتهنّ وظروفهنّ؟ وماذا عن علاقتهنّ بالبيت والعائلة؟

ثمّة إحساس مشترك بالذنب لدى الأُمّهات اللواتي يعملن في مهن تحتاج إلى دوام ليلي، حيث يتضاعف شعورهنّ بالتقصير تجاه العائلة، وبأنهنّ لا يواكبن أطفالهنّ في أكثر الفترات التي يحتاجون فيها إلى الحضن الدافئ، ويفتقرون إلى متطلبات غالباً ما تكثر عندما يسدل الليل ستاره. وكما يُحرم الطفل من حنان والدته وحضنها ساعة يخلد للنوم، تُحرم هي كذلك من متعة الكثير من اللحظات الجميلة في حياة فلذة كبدها. يحصل ذلك، على الرغم من أن بعض الأُمّهات العاملات في النهار، يحسدن الأُمّهات العاملات الليل، لمجرد أنّ الأخريات يمضين، في رأيهنّ، وقتاً أطول مع أطفالهنّ في يومياتهم الحافلة دائماً بكل جديد، لا يفوتهنّ نتيجة إبتعادهنّ لفترات طويلة. فماذا تقول الأُمّهات العاملات ليلاً عن أمومتهنّ.. الناقصة؟

-        دعم الزوج:

عاشت فيوليت بلعة السنوات العشر الأوائل من عمرها المهني وهي عزباء، حيث إنها لم تكن تعرف مسؤوليات الأسرة. فيوليت صحافية في جريدة "النهار" اللبنانية، حيث تتولى رئاسة قسم الإقتصاد. تروي أنّها أنجبت طفلها الأوّل قبل الإلتزام المهني بالعمل الصحافي اليومي. وتقول: "كنت على الدوام أتهرب من فرص كانت تأتيني للعمل في الصحف اليومية. لكن، عندما جاءتني فرصة العمل في جريدة "النهار"، وجدتُ أن من الضروري قبولها. وعندما التزمت بالمهمة، كنت أدرك تماماً متطلباتها. قبل هذا الإلتزام، كنت قد أنجبت طفلي الأوّل الذي كان قد شبّ قليلاً، وتركته في رعاية والدتي". وتضيف: "مع إلتزامي بعملي الجديد، حملت بطفلي الثاني. وقبل قبولي بفرصة عملي هذه، تناقشت مع زوجي في متطلبات العمل الصحافي اليومي، ووضعته في الصورة كلياً. وشرحت له مدى إختلاف هذا العمل عن العمل الأسبوعي أو الشهري". وتقول: "لأنّ زوجي يحب عملي، ويدعمني لأتقدم وأتطور فيه، فقد كان مشجعاً لي ومحفزاً للقبول بهذه الفرصة". وعما إذا كانت قد تغيبت عن عملها بعد الإنجاب لمدة 40 يوماً، كما كان ينص قانون العمل اللبناني، تقول: "لقد تمّ تعديل إجازة الأمومة في لبنان لتصبح 62 يوماً، وهو العمر المقبول لوضع الطفل في دار حضانة. فليس لكل الأُمّهات الموظفات أُمّهات متفرغات لرعاية أطفالهنّ". بعد هذه الإجابة، تشير فيوليت إلى أنّها تغيبت عن العمل 12 يوماً فقط، وتضيف: "خلالها، كنت أتابع العمل من المنزل، لأن قسم الإقتصاد حينها كان يعاني خللاً في المحررين. هكذا فقط لازمت طفلي 12 يوماً وتركته عند والدتي مع طفلي البكر". وإذ تؤكد فيوليت شعورها الكبير "بالتقصير" حيال طفلها الثاني، وأنّها لم تشبعه من حنانها، ولم ترضعه. إلا أن طفلها لا يعاتبها، لكنه يعرف تماماً واقعه، وأن تربيته كاملة قامت بها جدته. وتقول: "اليوم أشعر بأني ظلمته، وهو كان يحتاج إليَّ. لو لم تكن إجازة الأمومة ضرورية، لما اعترفت بها قوانين العمل كافة في العالم، ولما أعطاها العالم المتقدم حقها الكبير في أن تكون ستة أشهر أو حتى سنة". نسأل فيوليت، التي لا تعود إلى منزلها قبل التاسعة مساء: هل تشتاقين إلى أطفالك؟ فتقول: "نعم. وأعوّض عن هذا الشوق وعن غيابي بمتابعتهم عبر الهاتف، حيث أعرف كل شاردة وواردة تحصل في المنزل بعد عودتهما من المدرسة. لكني بالتأكيد أشتاق إلى متابعتهما عن قرب، وأرغب في تناول طعام الغداء معهما وتدريسهما، وهي المهمة الشاقة التي يقوم بها زوجي، ولاسيما أن ولديّ لا يقدمان على أي مهمة من دون حضهما عليها، والدرس يأتي في طليعة المهام التي يتهرب منها الأطفال". نلفت نظر فيوليت إلى أنّ الأطفال البعيدين عن أُمّهاتهم يحققون إستقلالية أكبر من أولئك الذين يعيشون تحت رعايتها مباشرة. تجيب: "ربما تكون هذه النظرية صحيحة، لكن هذا ما لم يحدث مع ولديّ".

تتذكر فيوليت بلعة طفولة ابنها الثاني البالغ حالياً من العمر 11 عاماً، فهي كانت تراه فقط حين توقظه ليذهب إلى المدرسة، وعندما تعود ليلاً يكون قد غطّ في النوم. وتقول: "حالياً أعود إلى المنزل وأرى شوقهما إلى مجالستي والتحدث معي. لكني أواظب كل صباح على إيقاظهما، ومتابعة شؤونهما قبل الذهاب إلى المدرسة. وكم أشتاق إلى مرافقتهما إلى المدرسة ومنها، ومتابعتهما مع المدرسين". بمصارحة سريعة مع الذات، تعترف فيوليت بلعة بأنّ "الأمومة تستحق كل الوقت".

-        عقدة ذنب:

عملها كمعدّة في برنامج "سيرة وانفتحت" في "تلفزيون المستقبل"، يفرض على غنى حليق أن تكون في غرفة الكونترول في الإستديو ليلة البث، الأمر الذي يستمر ما بين السابعة مساءً والواحدة ليلاً. لهذا، تقول غنى إنها في محطات كثيرة تحمل "عقدة ذنب"، ولاسيما "في ما يخص الرضاعة". وإذ تتحدث غنى عن تجربتها مع عمل الليل، تقول: "لقد تركت طفليّ تباعاً، وعدتُ إلى العمل عندما كانا في عمر الأسبوعين، وموعد مغادرتي المنزل كان غالباً ما يترافق مع موعد الرضاعة". وتضيف: "في إحدى المرات، صبرت لينتهي ابني من الرضاعة، لكنه أطال. عندها لم يكن لديّ حل سوى سحب ثديي من فمه، وتركه في عهدة شقيقتي وهو يصرخ صراخاً عالياً ومراً. إنّه الجوع. تركته يبكي، وأنا بدوري رحتُ أبكي في طريفي إلى عملي". وتتابع: "على الرغم من أني أعمل ليلة واحدة في الأسبوع حتى وقت متأخر، إلا أنّ طفليَّ لم يتكيفا مع ذلك، على الرغم من أني أتركهما كان يبقوا هادفاً في غيابي، لكن طفلتي منذ البداية تركي لها، كانت تواظب على البكاء منذ خروجي حتى عودتي، ولا تكف عن البكاء حتى أحتضنها وأرضعها وأنام قربها في السرير". وتشير غنى إلى أنّه "لا شك في أنّ هذا الواقع الذي يعيشه الأطفال، ينعكس سلباً على الأُم، ويؤدي إلى توترها الدائم خلال العمل". لكنها تلفت إلى أن "ما يخفف من حدة هذا التوتر، هو الإتصال الدائم بالمنزل. وفي حال سماع بكاء الطفل، فهذا التوتر يستمر على حاله أو يتضاعف". هل عمل المرأة ليلاً هو الأزمة؟ أم تكمن المشكلة في عملها بشكل دائم في ظل وجود الأطفال؟ تقول: "الأزمة الأكبر تكون خلال الليل، فأنا أشعر بحاجة الطفل إلى والدته ليلاً أكثر من النهار. ربما هو يحتاج مع إنسدال الظلام إلى مزيد من الدفء، وإلى أن نروي له حكاية وغيرها من الأمور". وتضيف: "منذ بلغ ابني عمر الثالثة، وهو يشجعني على تلك العمل، ويفتي الأمر بأننا لسنا في حاجة إلى المال. حتى إنّه كان يقول لي: "لا تشتري لي شيئاً فقط أريدك بقربي". أما طفلتي، فكانت تتساءل عن ضرورة المال وتسميه "المصاري". وتتابع: " الآن صار طفلاي واعيين، وكل ما يقومان به لحظة وداعي هو أنهما يتنافسان حول من منهما سيقبّلني القبلة الأخيرة. ومرحلة الوداع هذه لا أعرف كيف أتملص منها". وتشير حليق إلى أن "رعاية الأطفال من قبل الأهل في ظل غياب الأُم، أمر فيه بعض الأمان". وتقول: "بالنسبة إليَّ، لم أكن لأترك أطفالي برعاية مساعدة غريبة". وتضيف: "مع وجود أهلي بالقرب من أطفالي، إلا أني أشعر بالألم الكبير، فكيف مع وجود إنسانة غريبة؟". وتقول: "حتى هذا التاريخ يكره ابني يوم الإثنين، لأني سأتركه في السابعة وأذهب إلى عملي". تعتذر غنى عن الذهاب إلى عملها، فقط عندما يكون أحد أطفالها مصاباً بحرارة مرتفعة. وتتمنّى لو تمكنت من الإعتذار عن الذهاب لأشهر، خلال طفولة ولديها الأولى، وتتمنى أيضاً لو أنها كانت "في دولة تضمن حقوق الأمومة كما تستحق"، مؤكدة أن "ما من أم تترك أبناءها إن لم تكن في حاجة مادية إلى عملها".

-        مصادفة:

تعمل رنا قاسم مذيعة أخبار في "تلفزيون الجديد"، وهي أُم لطفل في عمر سبعة أعوام ولرضيع في عمر سبعة أشهر. وبناء على هذه المعلومة، نسألها عما إذا كانت المباعدة بين الطفلين سببها العمل ليلاً، فتقول: "هي مصادفة، ولاحقاً انتبهنا أنا وزوجي إلى أن فارق الزمن بين طفل وآخر صار واسعاً، فكان قرار الإنجاب". وتضيف: "عندما أكون بصدد الولادة، أجمع إجازاتي السنوية لأضيفها إلى إجازة الأمومة، بحيث أمكث إلى جانب الطفل لأطول فترة ممكنة"، لافتة إلى أن، "لازمت طفلي الثاني رامي لمدة أربعة أشهر بعد الولادة، والطفل الأوّل عمر لازمته لشهرين ونصف الشهر. وفي الحالتين أنا أعتبر هذه المدة قليلة، فالطفل يحتاج إلى والدته على الدوام حتى عمر السنة".

هل تشعرين بحاجة طفلك إليك عندما تتركينه ليلاً؟ تجيب: "بالتأكيد، ومنذ أسبوعين وجدت أن وقع غيابي صار أخف نسبياً من البدايات، حيث صار في إمكاني المكوث قربه حتى ينام، ومن ثمّ أغادر إلى العمل لأتركه برفقة والده والمساعدة في المنزل". وتشير إلى أنّه "عندما تمر الأشهر الأَولى من عمر الطفل، تتمكن الأُم في ما بعد من تنظيم وقته ووقتها بشكل أفضل". وتضيف: "أمّا الحال مع طفلي عمر، الذي هو في عمر سبع سنوات، فهي أنّه يحتاج إليَّ في فترة ما بعد الظهر لأهتم به لدى عودته من المدرسة، سواء على صعيد الرعاية، أم الغذاء، وكذلك المساعدة في الدروس. لكن عملي بعد الظهر وحتى الليل، يحرمه ويحرمني في الوقت نفسه من القيام بهذا الواجب. إلا أن زوجي يقوم برعايته عوضاً عني".

هل تحاكمين نفسك على ما تقومين به؟ تجيب: "في بعض الأحيان نعم. أحياناً أتمكن من ملازمة طفلي عمر حتى الساعة الخامسة، قبل أن أتوجه إلى التلفزيون. وأحاسب نفسي لأني دائماً أستعجله لننهي الغداء، واللعب والدرس". وتلفت إلى أنّ "الوقت دائماً معي مضغوط، في حين يحتاج الطفل إلى الراحة في الوقت، ولاسيما خلال تناوله طعام الغداء". وتضيف: "أمّا فترة الليل، التي تستمر حتى ما بعد نشرة الحادية عشرة والنصف، فأسوأ ما فيها عندما يكون أحد الأطفال في حالة مرض. فالليل يحمل مفاجآت، والأُم هي المسؤول الأوّل والأخيرة في مثل تلك الحالات". وتتابع: "قبل أسبوعين، مرض طفلي الصغير، واضطررت إلى أخذه إلى الطبيب، وتأخرت قليلاً على الإلتحاق بعملي. وخلال وجودي في العمل، لم أكن أدري كيف يمر الوقت، لكنه كان ثقيلاً جدّاً". وتقول: "في حالات المرض، أخشى على نفسي من الوقوع في أي خطأ، لأني أعجز عن التركيز الجيِّد، حيث أكون كأُم مقسومة نصفين أحدهما في العمل والآخر في المنزل".

-        أزمة ضمير:

هل يكون الأطفال ضحية الأُم التي تعمل ليلاً؟ تجيب بعد تمهل: "ليس بهذا القدر. فليس لي أن أجعل العلاقة بين عملي وأمومتي مسألة دراماتيكية. أشعر فقط بالنقص في الحنان والعاطفة عندما يستيقظ الأطفال ونحن بعيدون عنهم. وربّما هذا يقلقني، ويتعبني، أكثر مما يترك أثراً فيهم، لأنّهم بكل تأكيد سيجدون من يرعاهم في ظل غيابي. وعادة ما أقوم بكل واجبات اليوم المطلوبة مني كأُم وربة منزل، ثمّ أغادر إلى عملي. لهذا، أكون في غاية الإرهاق مساءً أو حتى خلال ذهابي إلى العمل".

ماذا يقول لك عمر عندما تغادرين العمل بعد الظهر؟ تجيب رنا: "عمر دائماً يردد: "الآن أنتِ ذاهبة إلى العمل"؟ مع العلم أنّه صار يربط بين العلم والعمل لاحقاً، ويعي ضرورة العمل لتأمين متطلبات العيش". وتقول: "لقد صار على قناعة بهذا المبدأ الحياتي، وبات يربط الأمور بعضها بالآخر، ولاسيما عندما تكون لديه متطلبات. لكن، في كثير من الأحيان تغلبه طفولته وأنانيته لجهة الإستئثار بوالدته. ولأني لا أعمل يومياً في فترتي بعد الظهر والليل، أحاول التعويض عليه بالإهتمام والنزهة واللعب". وتضيف: "بصراحة، ابني عمر يطالبني بالذهاب إلى العمل بعد نومه ليلاً وليس بعد الظهر، وهذا دليل حاجته إليّ بعد الظهر. ولا شك في أن أزمة الضمير تلازم الأُم، وهي لا ترضى عن عطائها لأولادها، سواء تركتهم خلال النهار أو الليل. والأُم التي تعمل بدوامات عمل مماثلة عليها أن تمكّن أطفالها من تحقيق إستقلاليتهم بعيداً عنها". وتقول: "المرأة ناضلت واجتهدت، لتدفع المجتمع إلى أن يتعامل معها على قدم المساواة مع الرجل، بغض النظر عن أمومتها. نحن نطالب بالمساواة الإنسانية بين المرأة والرجل، لكن في الحياة الإجتماعية، لدى المرأة مسؤوليات أكبر من الرجل على صعيد الأسرة، حتى إن كان زوجها مسانداً بنسبة مئة في المئة". وتشير إلى أنّه "لهذا، يكون هناك نسيان أو تجاهل للأمومة في كثير من الأحيان".

-        تأقلم:

الطبيبة النسائية الدكتورة رولا دعبول مزهر أُم لثلاثة أطفال، ومن المعروف أنها محكومة بالولادات التي تختار توقيتها بعيداً عن رغبة الطبيب ورغبة الأُم أحياناً. تخطف الدكتورة مزهر مرحلة الأمومة الأولى، وكبر أطفالها، لكنها لا تزال تصف تلك المرحلة بـ"الصعبة"، وتقول: "لقد كنت محظوظة بمساعدة الأهل، كما أن زوجي كان شديد التفهم. ولا شك في أن كل أم تعمل خارج منزلها، تشعر بالتقصير حيال أطفالها. أمّا الأعباء، فتقع عليها، لأنّها بلا شك تصاب بالإرهاق الجسدي، وتبقى عقدة الذنب مرافقة لها".

عندما نسألها أن تتذكر ولادة متعثرة استغرقت وقتاً طويلاً أبعدتها عن أطفالها ليلاً، تشير د. دعبول إلى أن "ما هو أصعب وهو فترات المناوبات التي تستلزم الدوام النهاري والليلي المتواصل في المستشفى لمدة 36 ساعة"، لافتة إلى أنّ "هذا ما شكّل الوقت الأكثر قسوة في حياة أطفالي". وتضيف: "خلال تلك المناوبات، كنت أترك طفلي وقتاً طويلاً. لكنه كان يجد الرعاية من الأهل، ومن زوجي كونه طبيب أطفال. وهذا بالطبع شكل عاملاً مساعداً في أمومتي مع أطفالي الثلاثة". وتتذكر أنّها كانت تعود إلى البيت منهكة، "لأنّ الدوام الطويل المتواصل في المستشفى يستدعي عدم النوم". وتكشف د. دعبول أنها، في الطفولة الأولى لأبنائها الثلاثة، كثيراً ما كانت تسمع منهم توسلات على شاكلة: "الله يخليك لا تذهبي. ابقي معنا". وتضيف: "مع الوقت، يتأقلم الطفل مع موجبات عمل الأُم، ويتفهم وإن على مضض. لكن من دون شك، في كل مرّة تواجه الأُم هذا الموقف، تشعر وكأنّها تترك قسماً من قلبها مع أطفالها، لكنها في الوقت نفسه تكون مجبرة على تلبية متطلبات عملها. فكل منا يختار مهنته وعليه أن يكون في خدمتها. ومن يحب مهنته يساعده الله في تسهيل الأمور". وبما أنّها هي وزوجها، طبيب الأطفال، يدعوان إلى الرضاعة الطبيعية، نسألها كيف تدبرت أمرها في هذا الخصوص؟ فتجيب: "عندما أنجبت طفليّ الأولين، كنت أتابع التخصص في الطب النسئي، وكنت أداوم 24 ساعة متواصلة في المستشفى. ولهذا، كان زوجي يأتيني بالطفل إلى المستشفى لأرضعه، وفي الوقت نفسه يحمل معه الحليب الذي أكون قد سحبته من ثديي. لهذا، كان زوجي بمثابة الأُم ليلياً؟ تقول: "الطفل يضحي طبعاً، لكنه يتأقلم. والأُم تضحي وتتأثر، لأنّها تشعر بالتقصير تجاه طفل هي كانت سبباً في الإتيان به إلى الحياة". وتضيف: "أطفالي تأقلموا مع وضعنا كوالدين طبيبين. وهم كثيراً ما يستيقظون ليلاً على مريض يطرق بابنا في المنطقة التي نعيش فيها، وهم يتقبلون ذلك بحب".

-        طيبة خاطر:

وحدها الممرضة سونيا حسين، اختارت الدوام الليلي في المستشفى الذي تعمل فيه بـ"طيبة خاطر" كما تقول، لافتة إلى أنّها تواظب على هذا الدوام منذ 13 عاماً. إلا أنّ هذا الزمن لم يكن عملاً ليلياً وحسب، بل خلاله أنجبت سونيا أربعة أطفال ذكور سبقتهم بنت. ابنتها الكبرى الآن في عمر 14 عاماً، وأصغر أطفالها في عمر السنتين ونصف السنة. سونياً اختارت بنفسها الدوام الليلي، الذي يبدأ في السابعة مساءً وينتهي في السابعة صباحاً، "حيث مقابل كل ثلاثة ليالي عمل، هناك ثلاثة أيام متواصلة عطلة". وفي هذا الدوام، وجدت سونيا نفسها أكثر راحة في رعاية أطفالها خلال النهار، عندما يكون والدهم في العمل، حتى وإن كانت في أكثر الأيّام تحتاج إلى النوم". وتقول: "لقد اخترت هذا الدوام لأنّه يمكّنني من التنسيق مع زوجي في رعاية الأطفال. فعندما أصل إلى منزلي، أنهي واجباتي وأحضر الطعام وأخلد إلى النوم قليلاً". وتتابع: "أنا مطمئنة على أولادي في هذا الدوام، لأنّهم في الثامنة مساءً يخلدون إلى النوم. في حين أنّ الدوام النهاري كان سيحرمني رؤيتهم". وتلفت إلى أنّه "في فترات غيابي ليلاً، كان زوجي خير راع لأبنائي حتى في طفولتهم مع بعض المساعدة من والدتي".

إجارات أمومة سونيا كانت تمتد في الحد الأقصى إلى ثلاثة أشهر، تعود بعدها إلى العمل، حيث تقول في هذا الإطار: "لقد أرضعت أبنائي كافة. وعندما كان يحين موعد عودتي إلى العمل، كنت أبدأ بتعويد الطفل تدريجياً على الرضاعة الإصطناعية إلى أنّ أعود وأرضعه حليبي". لا تنكر سونياً أن أبناءها كانوا يتعلقون بها لحظة خروجها من المنزل، وأنّهم كانوا جميعهم يرددون: "ابقي معنا"، ولاسيما عندما يبدأ التوقيت الشتوي، حيث تحل العتمة باكراً. وهي تقول عن تلك الأيام: "من المؤكد أني كنت أغادر منزلي وقلبي ينفطر. وكانوا جميعهم يرددون: "ماما نحن لا نريد المال، نريدك أن تبقي معنا". تشعر سونياً بـ"عذاب الضمير" عندما يمرض أحد أطفالها. لكنها تخلص إلى الإستنتاج الذي يقول إنّ "الحياة يلزمها كفاح ليستمر الإنسان في خدمة نفسه وعائلته". وتشير إلى أنّ "الأُم العاملة تُقصر أحياناً، لكن الحياة لها متطلباتها". تفرح سونياً حسين عندما تحدثها صديقاتها في ألمانيا وكندا عن إجازة الأمومة المدفوعة لسنة كاملة، وتقول: "هذا سيبقى بمثابة حلم للأمّهات اللبنانيات، لكن إن لم يكن ما تريد، أرد ما يكون".

ارسال التعليق

Top