• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحج.. وقفات لتطوير الذات

فاطمة محمود عليوة

الحج.. وقفات لتطوير الذات

لله سبحانه وتعالى نفحات، ينعم بها على عباده، ومواسم خير يحب الله سبحانه أن يرى من عباده فيها حسن الطاعة، وما يكاد ينتهي موسم حتى نستقبل موسماً خيراً منه، وها نحن نستقبل شهور الحج، والتي فيها العشر من ذي الحجة، وهي خير أيّام السنة، كما قال رسول الله (ص): "ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحب إلى الله من هذه الأيام العشر.."، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال (ص): "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".

ويرجع سبب تفضيل عشر ذي الحجة عن بقية أيام السنة لإجتماع أُمّهات العبادة فيها من صلاة، وصيام، وصدقة، والحج الذي لا يأتي مجتمعاً مع غيره من العبادات إلا في العشر من ذي الحجة، وبها يوم عرفة الذي يباهي الله سبحانه وتعالى ملائكته باجتماع عباده للتضرع إليه بالدعاء، وهو خير يوم يدعو فيه العباد ربهم سبحانه وتعالى، كما قال رسول الله (ص): "خير الدعاء دعاء يوم عرفة"، وهو اليوم الذي يتكرم الله فيه على عباده، فيستجيب لهم ويشهد ملائكته بالغفران لمن بذل وتضرع في هذا اليوم، كما قال رسول الله (ص): ما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة".

فعلينا أن نحسن إستقبال هذه الأيّام المباركة بالتوبة الصادقة، والعزم على اغتنامها، بكل سبل الطاعة المتاحة حتى نجني الخير الكثير إن شاء الله.

وما أجمل أن نتفكر في مناسك الحج لنأخذ منها دروساً وعبراً في تطويع النفس، على طاعة الله سبحانه، حتى ولو لم نكن من الذين أنعم الله عليهم بزيارة بيته الحرام هذا العام، ومع هذا نستطيع أن ننهل من مدلولات الحج، وأسراره، ما يغيرنا إلى الأفضل..

فالعبادات المفروضة علينا هي نفسها التي فُرضت على صحابة رسول الله (ص)، ولكن تأثيرها عليهم أعظم من تأثرنا نحن بها؛ لأنّهم أدركوا وفقهوا الحكمة وسر كل عبادة، فبرغم الإنتهاء من العبادة أو النسك، إلا أنّهم يحيون ويتحركون بأثره عليهم في فكرهم ومعاملاتهم، وهذا ما لا نحسنه نحن، وكأن أثر العبادة ينتهي منّا بمجرد انتهائنا من أدائها!! ولذا نفرغ من الصلاة وكأننا لم ندخلها بعد!! وينقضي رمضان وكأنّه ذكرى أيام خوالٍ!! ونعود من العمرة والحج بآثار مادية، من حلق رأس أو تقصير، أكثر منها آثار على الروح والخلق، ولهذا لم نسجل في صفحات تاريخنا مجداً يذكر في شهورنا وسنواتنا، كما ملئت نفس الشهور بأحداث مشرقة وبطولات مجيدة، حفرت في صفحات تاريخ صحابة رسول الله (ص).

-        وقفات للتدبُّر: فهل لنا من وقفات لنتدبر مناسك الحج؟! علّنا نخرج بدرس للحياة!!

1-الإحرام: وزيّه الموحد الذي يشبه كفن الميت! موعظة لكل ذي لب، فبرغم بقاء الإنسان على ظهر الدنيا، إلا أنّه يرتديه بإرادته، بعد أن يغتسل، فهل تذكرنا يوم نُغسّل فيه بيد غيرنا، ونُلفت به على غير إرادة منّا؟! فماذا أعددنا لهذا اليوم؟!

وملابس الإحرام البسيطة دعوة للتقليل من مباهج وزينة الحياة الدنيا، والتفكر في الآخرة، وسبيلها، وأولى منازلها، وهما الموت والقبر، حيث يجب أن يشغلا قدراً من إهتمامنا ليس بالتشاؤم من إنتهاء العمر، والخوف من المجهول والحزن لترك مباهج الدنيا، وإنّما بحسن الإعداد للآخرة، والإستعداد لمتطلباتها، ومنها الموت على لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وتقديم العمل الصالح الخالص لوجه الله سبحانه.

2-النية: فالإحرام هو نية الدخول في النسك، والنية يقصد بها: أن ينوي الحاج بقلبه وينطق بلسانه، نية الحج لله، وعلينا ألا ننسى أنّ النية مطلوبة في كل عمل، كما قال رسول الله (ص): "إنّما الأعمال بالنيات.."، وأنّ الله سبحانه يجازي على نوايا العمل الصالح، حتى ولو لم يتم العمل، فيجب على كل مسلم أن يحسن نيته، ويجعلها خالصة لله سبحانه.

3-الوقوف بعرفة والدعاء: فإذا وقف الحجيج بعرفة – ولم نكن معهم – فعلينا أن نتقرب إلى الله سبحانه بنعمه علينا، فنشكره في هذا اليوم على عطائه لنا، ونستغفره سبحانه على تقصيرنا، وإذا كان الدعاء خير ما يأتي به العبد يوم عرفة، فالدعاء عبادة لكل المسلمين سواء الحاج أو غير الحاج "فالدعاء هو العبادة".

والوقوف بعرفة يعلِّمنا الصبر في التضرع إلى الله سبحانه، بلا ملل أو تعجل؛ حيث يبدأ اليوم من الشروق ويمتد إلى الغروب، وهو دعوة لإتقان العمل لمن فقه عبرة الوقوف بعرفة..

وموقف عرفة يذكرنا بالموقف بأرض المحشر، وحاجتنا لظل الله سبحانه، يوم لا ظل إلا ظله، ولن ننال هذا الخير في الآخرة إلا إذا أحسنّا الوقوف بين يدي الله في الدنيا، فلا نكون إلا حيث أمرنا الله ولا نحيا إلا بمنهج الله.

4-الطواف: فإذا طاف الحجيج بالبيت، فعلق أنت قلبك برب البيت، فإنّ الله سبحانه قريب من عباده، ولتعلم أنك دائماً موضع نظر الله، فلا تُرِي الله منك إلا الخير.

وفي تكرار الطواف عبرة، فالحاج لم يكتفِ بالطواف مرّة واحدة، ولكنه يكرره سبع مرّات، حتى ينعم بحلاوة الجوار، والقرب من بيت الله، ولنتعلّم منه الإصرار في بلوغ الأمل، فلو فشلنا في تحقيق أمر ما، فلنعاود مرّات ومرّات، ففي كل عبادة درس للحياة!

5-استلام الحجَر (يمين الله في الأرض): إنّه موقف يرق له القلب، ويهفو إليه من حُرم منه، وأية سعادة ينالها الحاج عندما ييسر له استلام الحجر الأسود (الأسعد)، وإنّه لموقف عظيم في هذه اللحظة ماذا لو وضع الإنسان يده في يمين الله؟! وعلى ماذا يتعاهد؟ أيعقل أنّ اليد التي استلمت الحجر في الحج، هي نفسها التي تبطش، وتستحل الحرام بعد الحج!! أليس الأولى أن نتذكر فقرنا وقد وضعنا أيدينا بين يدي الكريم، ونتذكر ذنوبنا وقد وضعناها بين يدي الغفور الرحيم، راجين منه العطاء والغفران، ونعاهده على الطاعة، وسرعة الرجوع إليه، وعدم الإصرار على معصيته، حتى يجعل الله سبحانه لنا وداً بين يديه في الآخرة.

6-السعي بين الصفا والمروة: وفي السعي درس عظيم، في الأخذ بالأسباب، والبذل، وتكرار المحاولة، وعدم اليأس وسرعة الإستسلام، درس في بناء الإرادة، لمن فقدها، ومن السعي نتذكر ضرورة سعينا إلى الله، والتقرّب منه حتى ننال قرب الله لنا وعونه، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: "مَنْ تقرّب إليَّ شبراً تقربت إليه باعاً، ومَنْ تقرّب إليَّ باعاً تقرّبت إليه ذراعاً، ومَنْ أتاني يمشي أتيته هرولة.."، ولكن علينا أوّلاً أن نبدأ بالسعي إلى الله.

7- المبيت بمزدلفة: فإذا بات الحجيج بمزدلفة فلنُبِت أنفسنا نحن على طاعة الله، كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 162).

8- انتقاء الجمرات: وإذا كنّا ننتقي الجمرات لرجم الشيطان، أفلا ننتقي أقوالنا ونتخير أفعالنا لنقهر بها الشيطان؟! فإننا ننزل به أشد الحسرة والندم، عندما نخالفه، ونطيع الله سبحانه، فليس من المعقول أن نرجمه ببعض الجمرات في أيامٍ معدودات، ثمّ نرجع ونطيعه، ونتبع وساوسه، فنسعده أياماً وشهوراً، بل وسنين، ونحن في غفلة من الرجوع عن المعاصي، والإلتزام بمنهج الله.

9- يوم النحر والأضحية: فإذا كان يوم النحر للحجيج، فلندرب أنفسنا على ذبح هوانا!! ومخالفته إذا كان مخالفاً لما أمر الله به، وأن نتعلم معنى الأضحية الحقيقي، ولا نقصرها على ذبح شاة مرّة في العام، ولكن لنضحي برغباتنا، وشهواتنا من أجل إقامة الحق، وإعلاء كلمة الله، ولنضحي ولو بقليل من مالنا من أجل كل محتاج، ولنضحي براحة بالنا، ونقول كلمة حق ترد لمظلوم حقه، وليكن معنى التضحية أوسع حتى يشمل كل مواقف الحياة.

10-                    "الوداع" - طواف الوداع: فإذا طاف الحاج مودعاً البيت، وقد سأل الله من فضله العظيم، وبعد أن أتم نعمة الحج عليه، فلندرب أنفسنا كل ليلة قبل وداع اليوم بمحاسبة النفس والإستغفار، والتوبة، ولنتذكر وداع الحياة كلها باقتراب الأجل، فنحسن الظن بالله، ونحسن العمل والإستعداد ليوم الرحيل.

ارسال التعليق

Top