العلامة الراحل السيد محمّد حسين فضل الله
◄يريد الله تعالى للإنسان سواءً كان رجلاً أو إمرأة أن يعيش روحيّة العطاء، وذلك ما تمثله كلمة الصدقة من مفهوم العطاء قربةً إلى الله تعالى، فيقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد/ 18)، يُحث اللهُ الإنسان على أن يوظّف بعض القدرة المالية في أن ينفق الآن، لأنّه قد يملك الفرصة في أن يتصدّق على الفقراء والمحرومين، ويقول له، بأنّ الصدقة عبادة، فأنت إذا أعطيت إنساناً فقيراً محروماً قربةً إلى الله تعالى، فإنّ عطاءك هذا صلاةٌ تصلّيها، فكما أنّ الصلاة تكون بالأذكار والحركات من ركوع وسجود، فإنّها تكون بالصدقات. وهذا هو الذي جعل علياً (ع) يتصدّق بخاتمه وهو في حال الركوع، لأنّه (ع) كان لا يرى فرقاً بين الصدقة والصلاة، فهو عندما يركع ويسجد بين يديّ الله، فإنّه في حالة صلاة، وعندما يتصدّق، فهو في حالة صلاةٍ أيضاً، فهناك صلاة الركوع، وصلاة الصدقة.
ثمّ إنّ الله تعالى يقول، لا تعتبر الصدقة عندما تتصدّق بها – أيها الرجل وأيتها المرأة – خسارةً، لأنّه سبحانه يعتبر صدقة المتصدّقين والمتصدّقات قرضاً حسناً في حساباته، والصدقة عندما تعطيها للفقير، فإنّها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، كما جاء في بعض الأحاديث، فالله يستقرض منك بالفائدة، والفائدة عند الله ليست كفوائدنا نحن، بل يعطيها مضاعفة، أي مئة بالمئة.
(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) (الحديد/ 18)، هي دَيْنٌ في ذمّة الله، يوفيكه الله مُضاعَفاً يوم القيامة (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88-89)، وليس هذا الدَيْن يُضاعَفُ مئة بالمئة وحسب للإنسان، بل (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي هناك ما فوق المضاعف. وهذا هو الذي يدفعنا لأن نفكّر دائماً بانتهاز فرصة إمكاناتنا حتى نُعين الناسَ الذين يحتاجون إلى معونتنا. وقد يعتبر الكثيرون منّا حاجة الناس إليهم عبئاً عليهم، ولكن جاء في الحديث: "إنّ من نِعَم الله عليكم حاجة الناس إليكم" لأنّ الناس عندما يحتاجونك وتعطيهم مما أنعم الله به عليك، فإنّ ذلك يرفع درجتك عنده سبحانه. وقد ورد في الأحاديث عن بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم إذا جاءهم سائلٌ أو صاحب حاجة، استعجلوا قضاءَ حاجته، ولذا ورد عن الإمام عليّ بن الحسين (ع): "أحاف أن يستغني عني قبل أن أقضي حاجته" وقد ورد أيضاً: "داووا مرضاكم بالصدقة" فمع ذهاب المريض إلى الطبيب، فليحاول أن يتصدّق، فلعلّ بركة هذه الصدقة تُسرع في شفائه. وفي الحديث عن عليٍّ (ع) أيضاً: "سوسوا إيمانكم بالصدقة" أي احفظوا إيمانك بالصدقة، كيف؟ تسوس إيمانك بالصدقة كي لا يضعف وينحرف ويضلّ عن الخطِّ المستقيم. لذلك، فبذل الصدقة فرصةٌ كلٌّ بحسب استطاعته، وإذا كان البذل إيثراً، فهو فوق الفوق (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).
النموذج الأمثل في العطاء:
وقد مدح الله تعالى أهل البيت (عليهم السلام) علياً وفاطمة والحسن والحسين – سلام الله عليهم – حيث قال سبحانه: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) (الإنسان/ 8-10)، وماذا كانت النتيجة لعطائهم وصدقتهم (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) (الإنسان/ 11-12). ولو لم يكن للصدقة دورٌ في قرب الإنسان إلى الله لما تحدّث سبحانه عن هذه المكرمة لعليٍّ (ع) عندما أراد أن يكلّف الناسَ بولايته (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة/ 55)، والمراد بالزكاة، الصدقة، حيث كان عليٌّ (ع) راكعاً في الصلاة وجاءه سائلٌ، فأخرج الإمام (ع) خاتمه من إصبعه وأعطاه إيّاه ثمّ أكمل صلاته، فنزلت الآية المباركة.
إذاً، (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) هذه درجة المؤمنين عند الله، أن تؤمن بالله الواحد أنّه ربُّك ولا ربَّ لك غيره، وأن تؤمن برسول الله (ص)، وأنّ الله بعثه برسالته ليبلِّغها للناس، ليتلو عليهم آياته ويزيكهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة بعد أن كانوا في ضلال مبين.. أن تؤمن بالله ورسوله إيماناً عميقاً جديّاً.. أن تؤمن بالكلمة تنطق بها، وبالعقل تفكّر به وتقتنع، وأن تؤمن بالقلب الذي ينفتح على الله ورسوله، وأن تؤمن بحركتك في جسدك، عندما تجسّد الإيمان عملاً، فتقوم بما أمرك الله، وتترك ما نهاك عنه، لأنّ الإيمان عقيدةٌ في العقل، وكلمةٌ في اللسان، وحركةٌ في الجسد، فليس الإيمان مجرّد كلمة من دون مضمون، أو انّ الإيمان في القلب وحسب كما يقول بعض الناس.
والدعاوى إن لم تقيموا عليها *** بيّناتٍ أصحابها أدْعِيَاءُ
كُلٌّ يدّعي، وبعد ذلك تُعرف الحقيقة ويُكشف العمل
تعصي الإلهَ وأنت تُظهر حَبّه *** هذا لعمرُك في الفعال بديعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَه *** إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ ميطعُ
فالمؤمنون (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2)، فليس إيمانهم إيمان الكلمة. وعلى هذا، فإننا نعرف عمق الإيمان من خلال مواقعه، في العقل واللسان وفي حركة الجسم، أي أن يكون عقلك عقلاً مؤمناً ولسانك لساناً مؤمناً، وجسدك جسداً مؤمناً، وجسدك جسداً مؤمناً يتحرّك كما يحب الله له أن يتحرّك، ويقف كما يريد الله له أن يقف.. وإذا كنت كذلك، فما هي صفتُك عند الله؟ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) (الحديد/ 19)، الصِّدِّيق أكثر من الصادق، وهؤلاء صدقوا اللهَ بعقولهم وألسنتهم وحركتهم في الحياة، فليست هناك كذبةٌ في خفقات القلب، ولا في فلتات اللسان، ولا في حركة الجسد (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ) (الحديد/ 19)، الذين يجعلهم الله شهوداً على أمّتهم. وكلّما عظم إيمان الإنسان، كلما استقام طريقه وانفتح على ربّه، وكان شاهداً عند الله على المجتمع الذي عاش فيه، لأنّه يُطِلّ على مجتمعه من موقع استقامته في الخطّ (أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)، فالله يعطيهم أجرَهم، ويحوِّل إيمانهم إلى نور في وجوههم يوم القيامة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الحديد/ 12)، وهؤلاء يطلبون من اللهِ (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) (التحريم/ 8)، أكمله لنا، لأنّ النور قد يَنتقص بفعل بعض السيئات والمعاصي.
هؤلاء هم المؤمنون، وأما الكافرون والكاذبون، فما مصيرهم؟ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (المائدة/ 19). هكذا باختصار ومن دون تفاصيل. ►
المصدر: كتاب من عرفان القرآن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق