• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شهر رمضان.. تزكية وتعبئة روحية

عمار كاظم

شهر رمضان.. تزكية وتعبئة روحية

يقول تعالى: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). لقد تجمّعت في كتاب الله المجيد كلّ ركائز التربية ووسائلها وبواعثها، ولعلّ من أبرزها وأعلى درجاتها هو الصوم، إذ هو كفٌّ للنفس عن الأمور التي يحل التعامل معها في غير حالة الصيام. فإنّها تربّي الإنسان وتدرّبه وتنمّيه على قوة الإرادة والعزم، وتجعله قادراً على اجتناب ما أحلّه الله له في الحالات العادية.

ولذا يسأل البعض لماذا كتبت علينا فريضة الصيام في شهر رمضان؟ فإن كانت حكمة الصيام هي تحصيل التقوى وتزكية النفس وتعبئة الحالة الروحية في الإنسان، فهذا يقتضي أن يكون الصيام في أي يوم، وفي أي شهر، وفي أي فصل من فصول السنة، فلماذا سُنّ الصيام في شهر رمضان المبارك بالذات؟

وللإجابة على ذلك، فإنّ الصوم بذاته واجب على الإنسان أن يؤديه في السنة شهراً، ثم تَحدَّدَ هذا الشهر برمضان، فإن لم يستطع المسلم أن يصومه فعليه أن يقضيه في أيام اُخر؛ أي أن يصوم شهر كاملاً بدلاً عن الصيام في شهر رمضان، هذا أوّلاً.

وثانياً: إنّ شهر رمضان قد اختصه الله سبحانه وتعالى بحكمته البالغة، فهو الفعّال لما يريد، وهو الذي يسأل ولا يُسأل عما يفعل. خصّ الله شهر رمضان برحمته، وجعل فيه ليلة القدر، وأنزل في هذه الليلة المقدسة القرآن الكريم، كما جعل في هذا الشهر المناسبات الجميلة واللطيفة، كما خصّه باستجابة الدعاء ومضاعفة الخير، حتى أنّ الإنسان ليقرأ الآية الواحدة من الذكر الحكيم فيضاعف الله له الثواب، فيكون كأنّما قد قرأ القرآن الكريم كلّه... وقد قال الله تعالى كما جاء في الحديث القدسي: "الصوم لي وأنا أجزي به" بمعنى أنّ الله هو الوحيد القادر على إحصاء ثواب الصيام المكتوب للصائم، دون الملائكة واللوح والقلم والعادّين عموماً. ومن هنا جعل الصوم باعتباره عملاً شريفاً عظيماً وجُنةً من النار، كما جعل هذا الصوم أيضاً في هذا الشهر باعتبار عظمة هذا الشهر.

ولمّا كان شهر رمضان شهر الرحمة والجذب إلى الله سبحانه وتعالى وهو مصدر الرحمة، تجد الناس مطمئنين النفس والوجدان، فيمرّ عليهم هذا الشهر مروراً سريعاً يفاجئون بانتهائه. ولهذا ولغيره من الأسباب الاضطرارية فقد خفّف الله عن عباده الصيام في شهر رمضان وأرجأه الى أيام اُخر، ولم يأمر المسافر -مثلاً- بأداء فريضة الصيام، بل حتى قال بعض الفقهاء بعدم جواز الصيام فيه، فضلاً عن عدم وجوبه، لأنّ الرخصة في هذا الإطار بمثابة الهدية الإلهية، ولا يصح ردّ هدية الله. كذلك الأمر بالنسبة الى حالة المرض التي لا تتطلب أن يجهد المرء نفسه لتجاوزها، فالله رؤوف بعباده، ولا يريد لهم التعب.

وعلى هذا الأساس حدّد الله تبارك وتعالى شهر رمضان شهراً للصيام، ليتقرب الى بارئه أكثر من أي وقت آخر، فيستفيد من هذه الفريضة الإلهية أكثر الاستفادة، حيث يصل به إلى التقوى والرضوان.

والصوم -أيضاً- قد أمر به أوّلاً في الحالات العادية في كلّ عام شهراً واحداً، وأمر به مرة أخرى حينما يحتاج الإنسان إليه، حيث قال ربّنا تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة/ 153) وقد فسّرت كلمة (الصبر) من هذه الآية المباركة على أنّها الصيام، نظراً لأنّ الإنسان حينما يكون صائماً يكون أصبر عن الطعام والشراب والشهوة الجنسية وعمّا أمر الله بتركه.

أما كيف تكون الاستعانة بالصوم؟

أوّلاً: أنّ الصائم يصبر عن هذه الشهوات الجسدية العاجلة، فتنمو إرادته وتتضاعف عزيمته قوةً.

ثانياً: إنّ الإنسان بصيامه يتقرب إلى الله تعالى، ومن أولى بنصره الإنسان من الله؟

ثالثاً: إنّ الصائم يقترب من المعنويات، وكلما أراد الإنسان عُروجاً إلى عالم المعنويات، كان أقدر على الهيمنة على الماديات. فمن يصاب بمصيبة، أو تلحق به خسارة اقتصادية، أو لم يجد للزواج سُبلاً، فعليه الاستعانة بالصيام، بدلاً من الانهيار أمام المشاكل؛ فإنّه إذا صام ازداد معنوية وعزماً واقتراباً إلى مصدر القوة والربح والعناية والتوفيق، وهو الله عزّوجلّ.

ارسال التعليق

Top