قال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران/ 123).
يسند القرآن الكريم في كثير من الآيات الكريمة النصر إلى الله تعالى، يقول تعالى: (إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة/ 214)، مؤكّداً على المؤمنين ألا يستبعدوا نصر الله، ويقول تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) (آل عمران/ 126)، حتى لا يتوهّم أحد أنّه بقوته أو تضحياته أعطى المؤمنين نصراً، ويقول تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) (التوبة/ 25). مؤكداً أنّ هذا النصر ليس استثناءً نادراً وإنّما هو سنّة طبيعيةٌ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، والتي من جملتها الآية التي تحدّثت عن النصر الإلهي في معركة بدر الكبرى، ولا يخفى أنّ إضافة النصر إلى الله تعالى تعني أنّ النصر يحتاج إلى مدد إلهيّ، فإنّ كلّ شيء في الوجود لا يمكن له أن يستغني عن العون والمدد والتوفيق الإلهي، وهي إمدادات غيبيّة ترتفع عن المسائل الحسيّة. فالإنسان المؤمن بحاجة إلى مثل تلك الألطاف الإلهيّة الخاصّة، والنصر من الله تعالى هو لُطف منه على عباده المؤمنين، وهو مدد غيبيّ لا يتحقّق إلّا بشروط أقرّها الله تعالى.
شروط النصر الإلهي:
وقد أورد القرآن الكريم جملة من الشرائط لاستنزال النصر من عند الله والتي من دونها لا يمكن أن تترتّب النتيجة الإلهية، وأهم هذه الشرائط:
1- الإيمان: يقول تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم/ 47). وهذا شرط واضح إذ لا يمكن أن نفهم المدد الإلهي على قوم فاسقين أو كفّار.
2- العمل والجهاد: قال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمّد/ 7). فقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ) في هذه الآية، يُفهم منه صريحاً أنّ إعطاء ومنح النصر مشروط بمن يعمل وينصر ويجاهد في سبيل الله، والآيات الكريمة في الحثّ على الجهاد كثيرة، فليس الأمر كما قال اليهود للنبيّ موسى (ع) حين أمرهم بالقتال لدخول الأرض المقدّسة: (.. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا) (المائدة/ 24).
3- الأمل والصدق: يقول تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة/ 214).
والملاحظ في الآية أنّ الله تعالى أراد للمؤمنين رغم ما بهم من ضيق وضرّ وبأساء أن يأملوا نصر الله فهو قريب، وهنا مسألة مهمّة وهي أنّ هؤلاء المؤمنين ليسوا في مقام الاعتراض وإلّا لقالوا (أين نصر الله)، ولكنّهم في مقام استعجال ما هو يقين عندهم، ولذلك قالوا: (متى نصر الله)، والجواب الإلهي بقرب النصر كاشف عن هذه الحقيقة.
ويقول أمير المؤمنين (ع): "... ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلَين، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا ومرّة لعدوّنا منا، فلمّا رأى الله صدقنا أنزل لعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقرّ الإسلام...".
4- في سبيل الله: أن يكون العمل والجهاد كلّه في سبيل الله، فالنصرة لابدّ أن تكون لله.
قال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ) (محمّد/ 7). والمجاهدة لابدّ أن تكون في الله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69).
5- إعداد العدّة: قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال/ 60).
فالإعداد شرط من شرائط المواجهة، فالعدوّ الذي يرى عدوّه في حالة تخاذل وعدم استعداد يطمع به، فلا يتحقّق المدد الغيبي والنصر الإلهيّ عبثاً ولا مجّاناً ونحن عاكفون في البيوت كما قال اليهود لنبيّهم: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا). بل لابدّ من توفّر الشروط الموضوعية لكي تتحقّق الألطاف الإلهية، وليست هذه الشروط من المستحيلات.
6- استمراريّة النصر مشروطة بالتواضع: النصر تعقبه انفعالات نفسية خطيرة على المنتصرين كالعجب، والغرور، والتكبّر، والاقتناع بما وصلوا إليه، إلى غير ذلك من الصفات. من هنا ولكي يستمرّ النصر لابدّ من إزالة هذه الرذائل الأخلاقية من نفوس المؤمنين، بالتسبيح والاستغفار والشكر، والتواضع أمام نعم الله سبحانه والاعتقاد بأنّ هذه النعمة العظيمة منه عزّ وجلّ، وملك له متى ما شاء أخذها، وبذلك تدوم العلاقة بالله تعالى.
يقول تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (سورة النصر)، إنّ النصر له آثار مهمّة على الناس المنتَصر عليهم وغيرهم، من حيث تهيئتهم للدخول في الإسلام العظيم، فالناس مع المنتصر القويّ، لا مع المنهزم الضعيف، لذلك نرى السورة الكريمة ترتّب على النصر دخول الناس في دين الله أفواجاً.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق