عمار كاظم
"اللّهمّ واجعلنا في سائر الشُّهور والأيّام كذلك ما عمَّرتنا، واجعلنا من عبادك الصالحين (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون/ 11)، (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون/ 60)، ومن الذين (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون/ 61)". فبعد أن عاش المؤمن نفحات الإيمان وتنبّه إلى بعض حجب الغفلة التي ضربها عليه الشيطان، وتذوّق طعم الهدى والإيمان، وحلاوة العمل الصالح ولذّته، ينبغي أن يكون ذلك أساساً يبني عليه حياته المستقبلية، فسعادته الدنيوية والأخروية إنما هي متوقّفة على مقدار ما يكتسبه لنفسه من عمل الصالحات واجتناب السيئات، وعلى مقدار الوعي والإدراك لمفهوم الدين والدنيا والآخرة. عن رسول الله (ص) قال: "فليَتَزوَّد العبد من دنياه لآخرته، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، فإنّ الدنيا خُلِقت لكم وأنتم خلقتُم للآخرة". فعلّة خلق الإنسان إنما هو لأجل التنعّم بجنان الخلد وسعادتها الدائمة ولكن قبل ذلك يجب عليه أن يمر بامتحان الدنيا لمعرفة صلاحيته لدخول الجنّة أو دخول النار، فإنّ ذلك ما يقرّره الإنسان بنفسه لنفسه، فمن عظمة الله أن يخلق خلقاً كالإنسان الذي يملك العقل والشهوات فلا يكون كالملائكة التي هي عقول خالية من الشهوات ولا يكون كالبهائم التي هي غرائز خالية من العقل، فإن أراد الجنّة فإنّ عليه أن يختار في امتحان الدنيا ما يوصله إليها من الأعمال الصالحة المنسجمة مع قانون الله في الكون كلّه أو اتباع الدين، وان أراد النار فهو باختياره وقراره (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) (الحج/ 10). ولذا فإنّ على الإنسان أن يتزوّد وهو في الدنيا من الزاد الذي يختاره لآخرته، ويحدد به مقامه ودرجته في الجنّة أو مقامه وتسافله في النار، فإنّ الدنيا فترة محدودة سرعان ما تنتهي، وإنّ الشباب والقوّة فيها سرعان ما يزولان ليحلّ بعدهما الشيبة والضعف والوهن والمرض فلا ينبغي أن يغترّ الإنسان بحاله التي هو فيها، فإنّ كلّ شيء في الدنيا إلى تبدّل وفناء. وهذا ما يستدعي أن يراقب الإنسان نفسه ويخشى ربّه ويعلم إنّه إن خاف ربّه فقد أمن دنياه وآخرته وضمن سعادتهما كما وعد الله في كتابه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41). وقد ورد عن الإمام الصادق في توضيح هذه الآية أنّه قال: "مَن عَلِمَ أنّ الله يراهُ ويسمعُ ما يقولُ ويعلم ما يعمَلُهُ من خيرٍ أو شرٍّ، فيحجِزُهُ ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربِّه ونهى النفس عن الهوى". وفي حديث آخر عنه قال (ص): "مسكين ابنُ آدَمَ! لو خاف من النار كما يخاف من الفقْر لأمنَهُما جميعاً، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهِر لسَعِدَ في الدّارين". فمن اشتغل بخوف الله وخشِيَ سوء العاقبة التي تنتظره إن هو عصى أمر الله وأطاع الشيطان فإنّه سوف لن يكترث لرضى المخلوقين ولن يهمّه اختلافه عنهم في الأعمال والأقوال ما دامت أعمالهم مخالفة للدين ولربّ العالمين. والحقّ أنّه مهما فعل الإنسان من الصالحات وقدّم من الخيرات والمبرّرات وأقام الصلوات والواجبات فإنّه ينبغي عليه أن يضلّ خائفاً من ربّه لأنّه لا يعلم هل إنّ عمله قد قُبل أم لم يقبل؟ وهل أنّ ذنوبه قد غفرت له أم لا تزال تحيط به تبعاتها ولكلّ منها مطالب؟ وهل عصم نفسه من الذنوب التي تحرق حسناته أم لا يزال الهوى؟ وهل عصم نفسه من الذنوب التي تحرق حسناته أم لا يزال الهوى والشيطان متمكّنين منه؟ وهل خرج من مصائد الشيطان أم إنّه قد وقع في حبائل جديدة لم يحسب حسابها؟ فإنّ عداوة الشيطان لا حدود لها إذ كلّما اُغلِقَ له باب فتح أبواباً أخرى للاضلال والمعاصي. فالمؤمن في خوف دائم من حساب الله الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وفي هذا سبيل النجاة الذي يحميه من الغرور والركون إلى الدنيا ويقيه من الأعمال التي تحبط الأجر والثواب. عن رسول الله (ص) قال: "أعلى الناس منزلةً عند الله أخوفُهُم منه". وعن الإمام عليّ (ع) قال: "الخوف جِلْبابُ العارفين". وما أكثر الآيات والروايات الشريفة التي تدعو المؤمن أن يكون في أعلى درجات الحذر والخوف من الله حتى لو بلغ أحسن درجات الإيمان والصلاح، وأن تكون في قلبه حالة الخوف والرجاء دائماً، فهو بين أمل وخوف، ينتظر رحمة ربّه ويأمل في فضله وإحسانه ولكنه على خوف عظيم من دقّة مؤاخذة الله له فلا يبقى له شيء من الحسنات والصالحات، وهذا الخوف والرجاء هو الواقي له من كيد الشيطان والدافع له لمزيد من الصالحات والخيرات. قال الله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) (الزّمر/ 9). (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2). وعن أهل البيت (عليهم السلام) في مجموعة أحاديث منها: "ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنّه يُشرِفُ على النار، ويرجوَهُ رجاءً كأنّه من أهل الجنّة". وعن الإمام الباقر (ع) قال: "إنّه ليس من عبدٍ إلّا وفي قلبه نُوران: نورُ خيفَةٍ ونورُ رجاءٍ، لو وُزِنَ هذا لم يزد على هذا، ولو وُزِنَ هذا لم يَزِدْ على هذا". عن الإمام الصادق (ع) قال: "من وصايا لقمان لابنه: خَفِ الله عزّ وجلّ خيفَةً لو جئتَهُ ببرِّ الثّقلين لعذّبَكَ، وَارْجُ الله رجاءً لو جئْتَهُ بذنوب الثّقلين لرحِمَكَ". وبشكل عام فإنّه كلّما ازدادت معرفة المؤمن بعظمة رحمة الله وشدة حسابه وأخذه فإنّه يزداد خشوعاً له وخوفاً منه فليس بين الله وبين خلقه قرابة. عن رسول الله (ص) قال: "مَن كان بالله أعرف كان من الله أخوَفَ". وعن أمير المؤمنين (ع) قال: "أعلَمُ النّاسِ باللهِ سبحانه أخوَفُهُم منه". وهو ما أوجزه رسول الله كموقف وخطّ في الحياة بقوله: "ألا إنّ المؤمن يعمل بين مخافتين، بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما اللهُ صانعٌ فيه، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما اللهُ قاضٍ فيه، فليأخُذِ العَبْدُ المؤمن من نفسه لنفسه، ومن دُنياهُ لآخرتِهِ، ومن الشَّيبَةِ قبل الكِبَر، ومن الحياة قبل الممات، فوالذي نفسُ محمّدٍ بيَدِهِ، ما بعد الدنيا من مُستَعتَبٍ، وما بعدها من دارٍ إلّا الجنّة أو النّار". ولا يحسب البعض أنّ ذلك يجعل من الإنسان معزولاً عن المساهمة في الحياة أو المشاركة فيها بل على العكس من ذلك فهو أوّل المساهمين فيها استجابة وطاعة لله ولكنّه يعيشها بأفضل سبلها وبإيجابية مثمرة في الدنيا والآخرة لأنّه يعلم أنّ بعد هذه الحياة الدنيا حساب وكتاب وأنّه عند الكبر والمشيب سيأتيه الضعف والوهن والمرض والعجز ممّا يحول بينه وبين ما يريد من الصالحات. وعن الإمام الحسن (ع) قال: "مَن عَبدَ اللهَ عَبَّدَ اللهُ لَهُ كُلَّ شيءٍ". وهذا ما يجعله يقدم على الأعمال الخيرة والمساهمة فيها ولكنّه بنفس الوقت معافى من الأمراض الأخلاقية والنفسية التي تحبط عمله وسعيه. (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) (النور/ 37).
ارسال التعليق