• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شرعة الصوم.. والبناء

أ. د. محمد أديب الصالح

شرعة الصوم.. والبناء
كان من عطاء الله في صيام هذا الشهر المبارك أن نسبه – جلّ شأنه – إلى نفسه وأنّه هو الذي يجزي به، مع أنّ العبادات كلها لله سبحانه وهو الذي يجزي بها، فلا عبادة إلا له، ولا توجه إلا إليه، وهو جلّ وعلا بيده العطاء والمنع (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (الإسراء/ 20). ولكن حكمة عظيمة تكمن وراء هذه الخصوصية لصيام شهر رمضان. ما أحوج الأُمّة إليها، وهي تحاول أن تقهر الصعاب، وتحشد ما أعطاها الله من إمكانات على كل صعيد، كي تواجه مرحلة التخطي إلى ما هو الأفضل والأكرم إن شاء الله. فالمسلم الذي سلم له صومه كما بيّن النبي (ص) بشَّره ربنا تبارك وتعالى ببشارة عظيمة. وذلك جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري من رواية أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: "قال الله عزّ وجلّ كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنة. فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب. فإن سابّه أحد، أو قاتله، فليقل إني صائم. والذي نفس محمد بيده لخُلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه". الواقع أني أذكر الحديث، وأعلم أنّ الكثرة الكاثرة من المسلمين يقرؤونه ويسمعون عن دلالته الكثير المبارك في هذه الأيام، ولكن حسبي الإلماحة السريعة إلى الخصوصية التي نجدها في تلك الكلمات النورانية "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به" فيم كان ذلك؟ وكل الأعمال التي يقوم بها المسلم – في مجال العبادة – كما ذكرنا في صدد هذا الكلام –: هي لله عزّ وجلّ وهو سبحانه الذي يجزي بها. الواقع أنّ الصوم لا يقع فيه الرياء؛ فكل عمل من أعمال البر باعتبار أن له صورة إيجابية ظاهرة يمكن أن يدخله الرياء، والرغبة في الظهور أمام المخلوقين بمظهر التبتّل والنسك. أما الصوم: فإنّه إمساك وليس عملاً يظهر، فهو أقرب إلى عمل القلب منه إلى عمل الجوارح، إنّه بالنية التي تخفى على الناس ولا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ. والصوم – كذلك – أمانة؛ فهو أمر بين العبد وخالقه الذي يعلم السر وأخفى، وفي مقدور كل امرىء أن يكون غير ممسك عن المفطرات ثمّ يدعي غير ذلك. والذي يعلم سرَّه ومكنون نفسه وما توسوس به: هو الله الذي قال في كتابه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16). من أجل أنّ الصيام أمانة وأنّه بعيد عن الرياء.. إلى وجوه أخرى ذكرها بعض العلماء. قال الله تعالى: "إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به"، فما دام لا يطّلع على الصوم إلا هو سبحانه: فلتكن الإضافة إلى نفسه سبحانه. وقد جاء في بعض روايات الحديث "يدع شهوته من أجلي". أما إنا لو فتحنا البصائر على نور هذه الحقيقة وحاولنا أن نفيد منها لواقعنا، لألفينا ثروة لا تنفد من الخير إذ الأمانة والبعد عن الرياء زاد لابدّ أن يصحب كل عامل على طريق هذه الأُمّة، مهما كان شأنه وتخصصه! وكم تعاني الأُمّة اليوم من فقدان الأمانة، ومن الرياء وحب الظهور. أمّا ونحن نبصر هذه الخصوصية في رمضان من منظور جماعي: نجد لزاماً أن تكون الأمانة والإخلاص لله نسغ الحياة في جيل نُعدُّه لحمل أمانة البناء وتنمية الوجود الذاتي للأمّة والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.   - شرعة الصوم.. والبناء: في ظل المعلم القرآني من آيات الصيام، رأينا بعضاً من توجيهات النبي (ص) التي تجعل من الصيام عبادة مقبولة، ينعكس أثرها على الفرد والمجتمع، حين دعا عليه الصلاة والسلام – وهو المبيِّن عن ربه ما أراد – إلى إمساك الجوارح عن كل ما ينافي أدب الإسلام وأخلاق البررة المتقين. ويزيد الهدي النبويُّ هذه القضية بياناً، فيقول (ص) متوعداً أولئك الذين تنفصل العبادة عندهم عن السلوك، فيكون صيام النهار وقيام الليل عملاً مبتوراً عن خشية القلب، ومراقبة الله عزّ وجلّ، حتى تجد إمساكاً عن المفطرات هو بالتقليد الآلي أشبه، وحركات ليس فيها ندى الطاعة ولا حرقة القلوب الخاشعة... فيقول صلوات الله وسلامه عليه فيما روى أحمد وغيره: "ربَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع وربَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر". إنّ هذا الإنسان غريب على بنية المجتمع المسلم كما أراد الله له أن يكون، وكما عانى بناءَه المبلِّغ الصادق عليه الصلاة والسلام، فهو يجوع ويظمأ وتحاصره شهواته نهاراً، وقد ينصَب في القيام ليلاً، ولكن ليس له – ويا للحِرمانِ – إلا جوع النهار وسهر الليل، إنّه في واد، وقبول عمله في واد آخر. ولا عذر لمعتذر بعد البيان الأمين ممن قال الله في شأنه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128). تُرى أيُّ صيام هذا الذي يدعيه الظالمون الطغاة، والمظاهرون لأعداء الله على المسلمين، وآكلوا الحرام والمؤذون لعباد الله؟!! إنّه – والله أعلم – صيام الذين قال الله فيهم: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) (إبراهيم/ 42-43). وهكذا تأخذ العبادات – ومنها فريضة الصوم – مكانها في عملية البناء الفريدة في تاريخ بني الإنسان؛ فليست هذه العبادة رسوماً وأشكالاً مقطوعة النسب عن الاستقامة في التعامل والسلوك، وليست أمتنا أمة طقوس وزخارف ورسوم، تهمل القلب وتُعنى – فحسب – بما تبصره العينان من الفن والشكليات، ولكنها أمة تحمل رسالة العبودية الصادقة لله عزّ وجلّ في إطار من البناء: عماده الإنسان، محوره إعداد هذا الإنسان بدءاً من داخل النفس، وتنمية مشاعر الإنسانية ودواعي الفطرة فيه. والواجبُ في شرعة الإسلام أن ينعكس ذلك على تصرفاته وطريقته في السلوك؛ ليتم التواؤم بين العلم والعمل وبين العبادة والسلوك. فالتزام الشرعة في الوقت، والحركة، وطريقة العبادة: عبادة. وانتظامُ هذه الأمور ضمن دائرة من التكامل الذي يقوم على يقظة القلب ومراقبة الله عزّ وجلّ: عبادة أيضاً، فالمسلم – على سبيل المثال – يلتزم بالعدد المطلوب من الأيام في رمضان حسب رؤية الهلال، مع المجال الزمني للإمساك، لأنّ العَمدية في تجاوز الفجر عند الإمساك أو الفطر قبل الغروب بأي زمن متصور: قاضية على صوم ذاك النهار، وهو درس في الأمانة والنظام ما بعده درس، ولكن ذلك كلّه ليس منقطعاً – كما أسلفنا – عما توجبه سلامة البنية في المجتمع، وضمان استقراره في ظل أحكام الإسلام. والسعيد السعيد من انبعثت أعماله عن قلب يقظ، يفيض على الجوارح – وهو موئل التقوى – استقامة سلوك وإخلاص دين، وإذا صلحت حال الفرد وفق هذا المنهج المتكامل: صلحت – بعون الله – حال المجتمع، والبررة الأطهار الذين كتبوا تاريخ بدر، والفتح في رمضان، هم أولئك الذين أحسنت يد محمد (ص) الصنّاع بناءهم، فكان ما كان على يدهم من النصرة والتمكين. ولكم نكون على قدم الصدق والكرامة، حين نتخذ من شهر رمضان جسراً يصلنا بأولئك البناة الأمناء الذين عبدوا الله صائمين مجاهدين، صادقين ما عاهدوا الله عليه، وكانوا بذلك الترجمان العملي للإسلام الذي آمنوا به، وآمنوا بمن حمله إلى الدنيا وحياً من عند رب العالمين.   المصدر: كتاب (الإنسان والحياة.. في وقفات مع آيات)

ارسال التعليق

Top