كيف بدأ في تصوير هذا الشهر ونقلكم إلى أجوائه الخاصة التي تميز بها دون غيره من الشهور. ولطالما تحدثت عنه القلوب بحديث صادق وخطت الأيدي أنمق الحروف لوصفه والوقوف عنده ويذكره المجتمع الإسلامي بلياليه الحلوة وأيامه الجميلة. فهو الذي يتعقّب شهر شعبان هذا الشهر الكريم شهر التوبة والغفران الذي عرف برحابته لأعمال المؤمنين وعبادتهم فما أكثر اطالة الإنسان فيه للدعاء والتهجد والمناجاة.. (رمضان ربيع القرآن) كما يقول الحديث والقرآن ميزان لتوضيح طريق الإنسان وارشاده إلى الصواب فكيف بنا ونحن نستقبل هذا الشهر أن نطعّم سلوكياتنا بآيات القرآن وأحاديث رمضان.
وجرت العادة في هذا الشهر أن يحسب له الناس حسابات خاصة، لا من حيث الاستقبال الروحي بشكل كامل ولكن الاستقبال في المجتمعات الآن أصبح بالتزود بالمواد الغذائية وأنواعها وتخزينها لحلول رمضان.. وبمجرد هطوله الأوّل تتطلب الأفواه لاشباع الجوع بتنويع الطبخات والتشكيلات المزخرفة في الطعام والتبذير فيها بصورة لا تصدق ولا تخطىء إن قلنا إن هذه الظاهرة قد أفرغت رمضان من المحتوى الحقيقي الذي يكنه القرآن والإسلام له "... فهو خير من ألف شهر".
وبالاستمرار في ذلك فنحن حولنا الهدف من هذا الشهر إلى هدف آخر بينما رمضان فرصة لتناغي كل نفس ومشاعرها وأحاسيسها الداخلية حيث النفس وما يمكن فيها من نوازع الخير ونوازع الشر وقد جاء رمضان لضبط النفس وتقوية الإرادة نحو التغلب على نوازع الشر واختيار الفضائل والاعمال الخيرة. التي تحدد سلوك الإنسان ونفسيته بشكل خاص. ولهذا لا يمكن أن نعتبر رمضان سحابة مسرعة تمر دون هطول الخيرات منها إذ أن غيثها ارتواء لأنفسنا المتعطشة لمثل ذلك وكم تألقت المبادئ والقيم الإسلامية ليعمل بها الإنسان فتحدثت الآيات الكريمة وتجمعت هداية الناس عبر الأنبياء عليهم السلام وتأطرت القيم بحضارات شامخة قائمة على تلك المبادئ. ولكن لأن علم الله أوسع فهو الذي يعلم ما تخفيه الصدور والأنفس من مراوغة وتسويف لدى الإنسان في اتباع القيم السماوية بكل حذافيرها وبالصورة المطلوبة ولذلك جاءت فرحة رمضان كمصدر لتركيزها وتذكير الإنسان بها بكيفية أخرى وتأتي هذه الكيفية على شكل معالجة واقعية لأمراض الإنسان الصحية والجسدية وكذلك أمراضه النفسية التي تقف حاجزاً أمام سعادته في الحياة الدنيا والحياة الأخرى.. ويتمثل ذلك في المنهج التربوي العلمي الذي يعالج القضايا الكبرى وأهمها بناء الشخصية الفاضلة بكامل القيم من حيث الأخلاق وصقل النفس بالشيء الذي يجعلها في الوقت ذاته تعبد الخالق فقط لا غير فإذا كان الإنسان اعتاد على الشراب والأكل بشكلٍ دائم يأتي الصيام ويغير هذه المعادلة ويحدد أوقات معينة للأكل وأوقات للاقتناع عنه فتكبر عنده الإرادة في الاستغناء عن الضروريات الأولية للحياة لعدد من الساعات، وإذا كان الإنسان الغني لا يستشعر الفقر والفقراء فالصيام يأتي ليعلمه بأنّ الأغنياء لابدّ أن يدركوا حاجة الفقراء والحياة التي يعيشونها ومن ثمّ يتبنى الرحمة من قبل الغني على الفقير وكذلك يحقق مبدأ العطاء أما إذا نظرنا للصيام من الناحية الأخرى والمؤثرة على حالة الإنسان الصحية فإنّ الصيام بلا شك يهدئ الأعصاب ويخفف دورة الدم فتهدأ فورة الجسد فيحيا الصائم بروحه أكثر منه بجسده وهذه الفلسفة المتواضعة حول الصيام يتأتى عبر انقياد الإنسان لعقله فتنطلق في نفسه الفضائل دفعة واحدة فتطفي غرائز الفضيلة على غرائز الرذيلة ويتسامح مع أخاه.. ويصفح عن المسيء، ويسعى للمصالح العامة ويصل الرحم ويقرك في عقله حب التأمل والتفكير في فلسفة الوجود.. وفلسفة الغنى والفقر ويود لو يستطيع أن لا يرى جائعاً أبداً... وأن يسخو بكل ما لديه لانقاذ الناس من الجوع.. فيندفع إلى تفقد الأهل والأرحام والهام الجائعين ومساعدة المحتاجين، فالصيام لم يكن في يوم من الأيام الامتناع عن الأكل والشرب فقط بقدر ما هو صيام كل جوارح الإنسان على الأذى وارتكاب المحرمات.. أما الذين أتخذوا تشريعات الصوم وعرفوا الاطار دون المحتوى فهم الذين يعتبرون رمضان عنوان لعدة حالات سلبية تفشت وانتشرت في أغلب المجتمعات وللأسف الشديد إن هذه الحالات لم تعد شيئاً يشعر به الناس فقد تعودوا والعادة في الخير أو الشر ودون أن تكن لديهم وقفة اصلاح من أزمة الفهم الخاطىء لصيام رمضان.
الحالة الأولى: الضجر والسأم: فما أكثر الذين يستقبلون رمضان بهذه الروحية الضعيفة ويرى إن صيامه امتناعه عن الأكل والشرب شيء صعب لا يستطيع القدرة في مواجهة غرائزه وأهوائه فيصبح وهو غير مؤهل لتحمل الجوع والعطش فيتعكر داخلياً وينعكس ذلك على ضجره الدائم وسأمه وقلة بشاشته أمام الآخرين فعلى الآخرين أن يسمعوه وهو يصخب دون أن يتفوهوا بأيّة كلمة ما على الأهل الذين يحيطونه أو أصدقائه إلا أن يقبلوا واقعه المأساوي في التأزم النفسي نتيجة لجوعه وعطشه ويوصف الإسلام هؤلاء بالضعفاء في الإرادة ومقاومة الشهوات وعدم قدرتهم على ترويض أنفسهم على التغلب على ذلك. يقول النبي (ص): "ما من عبد يصبح فيشتم فيقول إني صائم سلام عليكم إلا قال الرب تعالى: استجار عبدي بالصوم من شر عبدي قد أجرته من النار، وادخلته الجنة" ويقول أيضاً: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد ما فليقل إني صائم".
"المسلم ألف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف".
حالة الكسل والنوم. قد لا نخطىء إن قلنا إن مفاهيم الصيام عند البعض قد اختلفت واختلطت فأصبحوا يطبقون "نومكم فيه عبادة" بصورة أخرى مفايدة للمعنى الأصلي.. النوم فيه عبادة هذه أفضال الخالق على الصائم لكن لا أن يتحول النهار إلى الليل فيظل الصائم نائماً من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس ومن أن يشعر بساعات الصيام ومكابدته للعطش والجوع فبمجرد أن يجلس من النوم يفطر ليصلي المغرب وهكذا إلى أن أصبح البعض يحبذ طريقة التكاسل هذه فلا يرى في جلوسه من النوم أو اكثاره بعبادة الرحمن شيء ضروري وكل ما استفاده الصائم في نهاية الشهر هو النوم للتخلص من الصوم.. ولنسوا حقيقة واحدة وهي إنهم لم يقوموا بتشذيب أنفسهم للقضاء على سلبياتهم والهداية إلى كتاب الله وفرقانه. (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185)، فإذا كان الخالق قد أكرمنا بقدوم هذا الشهر العظيم. فإننا لابدّ أن نوقظ أنفسنا وننور قلوبنا الذابلة بنور القرآن لكي لا نصبح ضحايا الأهواء والأوهام فهذا ربيع القرآن وفيه تفتحت نوافذ الربيع على المساجد بالعبادة للخالق عزّ وجلّ فالعيون شاخصة إليك تناجيك منادية طالبة الاستغفار والتوبة منك.
ارسال التعليق