لا أحد ينكر صحّة الحكمة القائلة: «الوقاية خيرٌ من العلاج»، لذا فإنّ ترك الذنب واجتنابه أسهل بكثيرٍ من طلب التوبة بعد التدنّس بشوائبه، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تَركُ الذنبِ أهوَنُ من طلَبِ التوبَةِ». لكنّ رحمة الله واسعة ورحبة بأن جعل للإنسان باب مفتوح دائماً هو طلب المغفرة بعد التوبة من الذنب، يقول الله تعالى في كتابه المجيد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) (التحريم/ 8). بهذا النداء الإلهيّ الذي يتكرّر في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم، يريد الله تعالى أن يدعو عباده إلى أن يرجعوا إليه، ويخلصوا له، ويستقيموا في دربه، كي لا ينساقوا وراء إغراءات الشيطان، ممّا يؤدِّي إلى الانحراف عن الصراط المستقيم والبُعد عن الله والوقوع في المعصية.
فالله سبحانه وتعالى يريد أن يقول للإنسان: إنّني أعرف أنّك قد تواقع الخطيئة، وقد تنحرف عن الدرب، وقد تسقط أمام التجربة، ولكنّي لا أريد لك أن تشعر باليأس من رحمتي وبالقنوط من مغفرتي، فقد فتحت لك، في كلّ موقع تشعر فيه بالحاجة إلى أن تعود إليَّ، الطريق بأوسع ممّا بين السماء والأرض، بأن تتوب إليَّ توبة تندم بها على سوء ما فعلته، وما يترتب على ذلك من نتائج سيِّئة تحصل لك في الدُّنيا والآخرة، ثمّ لتفكّر في المستقبل، باعتبار أنّه يمنحك أكثر من فرصة لتجديد علاقتك بالله وللحصول على رضاه، وللتحرّك في مواقع قربه، وعند ذلك يمكن لك أن تغلق تاريخ الماضي، وتفتح لنفسك تاريخاً تصنعه من جديد، وهو تاريخ العودة إلى الله والسير في الخطّ المستقيم والطاعة لله. وهذه هي التوبة النصوح، أن تفكر عند التوبة أن لا تعود إلى المعصية، بحيث تتعامل مع نفسك من موقع وعيك لخطورة المعصية وعظمة الطاعة ومسألة القرب إلى الله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ - إذا تبتم وعشتم في هذا الجوّ ورجعتم إليه - أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ - فيجعل تلك السيِّئات كما لو لم تكن، لأنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له - وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ - لتنضموا إلى المسيرة التي بدأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واتبعه فيها المؤمنون وساروا على نهجه - يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ - هؤلاء الذين عاشوا الإيمان فكراً وحركة وجهاداً، وأخلصوا لله ولرسوله وجاهدوا في سبيل الله، يقفون في يوم القيامة والنبي قائدهم - نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ - وهو نور الإيمان والجهاد والطاعة - وَبِأَيْمَانِهِمْ - لأنّهم كانوا يحرّكون إيمانهم في ما يرضي الله، سواء في مقام العطاء أو التعاون على البرّ والتقوى أو في مقام الجهاد - يَقُولُونَ - وهم يشعرون أنّهم ربّما أخطأوا بعض الخطأ في ما عاشوه في الدُّنيا، أو صدرت منهم بعض المعاصي، فيقولون: - رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا - حتى يدخلوا الجنّة وكلّهم نور، حيث لا نقص في هذا النور، بل إتمام النور بالمغفرة - وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
التوبة تصحح لك نفسك وتغيّرها، وتجعلك تصنع نفسك صناعة جديدة؛ الآن قبل غد، وغداً قبل بعد غد: «حاسبوا أنفُسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا». وإذا تُبت إلى ربّك وعرف الله منك صدق التوبة وأنّها التوبة النصوح، فسوف يحبّك، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) (الشورى/ 25)، و(يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة/ 222)، وما أحلى أن نحصل على محبّة الله. إنّ حلاوة محبّتنا لله وحلاوة محبّة الله لنا هي السعادة كلّ السعادة، هي اللّذة كلّ اللّذة، هي الخير كلّ الخير، ولذا لا قيمة لحبّ الناس لنا مقابل حبّ الله، لأنّ حبّ الناس زائل، بينما حبّ الله يمنحنا رضوانه وقربه وجنّته، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26).
ففي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله فستر عليه في الدُّنيا والآخرة»، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: «ينسي مَلَكَيه ما كتبا عليه من الذنوب، ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه - فلا تشهد عليه يده أو رجله أو لسانه - ويوحي إلى بقاع الأرض - لأنّ كلّ أرض تعصي الله فيها تشهد عليك، وكلّ أرض تطيع الله فيها تشهد لك - اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب».
وعن أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)؟ قال (عليه السلام): «يتوب العبد من الذنب لا يعود فيه». وورد عن أحد أصحابه أيضاً يقول: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)؟ قال (عليه السلام): «هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً»، قلت: وأيّنا لم يعد؟ فقال: «يا أبا محمد، إنّ الله يحبّ من عباده المفتن التوّاب».
وفي ضوء ذلك، فإنّ التوبة لا تحمل معنى الهروب، بل تمثّل معنى الإرادة الفاعلة التي تجعلنا نواجه الموقف بقوّة، من خلال الطمأنينة الهادئة الآمنة بأنّ الله قد ألغى لنا كلّ ذنوبنا، وجعلنا ننفتح على يوم القيامة كمن لا ذنب له، فلا يوقفنا على ذنب اكتسبناه ليؤنّبنا أو ليبكتنا عليه، ولا معصية اقترفناها ليعذّبنا عليها هناك عندما يقوم الناس لربّ العالمين، ليبلو أخبارهم، وليفضح أسرارهم، ويكشف أستارهم. إنّنا نتوسّل إليك، وأنت الذي سترت علينا ما فعلناه، فلم تطلع عليه أحداً من هؤلاء الذين جعلتهم شهداء على خلقك، أن تديم لنا هذه الرعاية الإلهية، لتستر علينا في الآخرة كما سترت علينا في الدُّنيا، لأنّنا انطلقنا من مواقع الخطيئة إلى مواقع التوبة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق