إنّ الحديث عن العلاقة بين البيئة الطبيعية والطفل يتمّ في اتّجاهين:
الأوّل: نظرة الطفل إلى البيئة الطبيعية وسلوكه تجاهها وكيفية تعامله معها.
الثاني: تأثير البيئة الطبيعية على تشكيل هُويّة الطفل.
تأثير البيئة على البُعد الجسماني للطفل
إنّ تأثير البيئة الطبيعية في البعد الجسماني للطفل من المسائل البديهية التي أثبتها العلم التجريبي ويُعاينها الإنسان بالحسّ والخبرة الشخصية، كيف لا، والطفل عنصر من مكوّنات النظام البيئي الطبيعي ومجاله الحيوي، فمثلاً لا يُمكن لأحد أن يُنكر تأثير عوامل المناخ من حرارة وبرودة على نمط حياته الصيفية أو الشتوية في لباسه وطعامه وسلوكه وأنشطته...، أو ينفي التأثير السلبي لتلّوث التربة والهواء والمياه في تهديد الأمن الغذائي والسلامة الصحّية للطفل.
كما لاشكّ أيضاً في أنّ البيئة الطبيعية تؤثّر في البعدين البيولوجي والفيزيولجي للطفل، لذلك تكون البنية الجسدية لسكان المناطق الباردة مختلفة عن سكان المناطق الصحراوية الجافة والحارة إلى غيرها من النماذج الكثيرة.
لكن، إذا تجاوزنا تأثير البيئة الطبيعية في البُعد البدني والصفات الجسمية للطفل، السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه: هل تلعب دوراً في البعد الذهني والمزاجي والوجداني والنفسي والسلوكي للطفل؟
هذا السؤال ليس جديداً على بساط البحث، فنجد أنّ أرسطو طاليس (384-322 ق.م) يربط في كتابه «السياسة» بين المناخ والجغرافيا من جهة وبين طبائع الشعوب. وكذلك نُلاحظ عند ابن خلدون (1332-1406م) في مقدّمة كتابه المعروف «العبر وديوان المبتدأ والخبر»، حديثه عن أثر المناخ في طبائع الشعوب. وأيضاً ربط جان بودان (1530-1596م) بين طبائع الناس والمناخ، حيث اعتبر أنّ أهل الأقاليم الشمالية الباردة قساة مخاطرون، بينما يتّصف أهل الأقاليم الجنوبية الحارة بالمكر والأخذ بالثأر، أمّا أهل الأقاليم المعتدلة فهم أكثر فطنة ونشاطاً ولديهم القدرة على القيادة. ونُلاحظ هذا الاتّجاه عند شارل لوي دي سيكوندا مونتسكيو (1689-1755م) في كتابه «روح القوانين»، حيث يعتبر أنّ سكان المناطق الباردة أكثر قوّة وشجاعة وأقل ريبة ومكراً من سكان المناطق الحارة الذين يتّصفون بالوهن الجسماني والسلبية، مضيفاً أنّه من خصائص البلاد الحارة مثلاً كون الغريزة الجنسية مفرطة بخلاف المناطق الباردة.
الرؤية الإسلامية في تأثير البيئة الطبيعية على الطفل
إنّ جميع أطفالنا عندما يسمعون صوت الرعد أو نباح الكلب، أو يرون البرق وسعة البحر وظلمة الليل، أو يشعرون بالهزّة الأرضية، تتحرّك في داخلهم مشاعر الخوف والاضطراب، وكذلك عندما يسمع الطفل صوت زقزقة العصافير، أو يشاهد الحقول الجميلة والأزهار، تطرب نفسه لا شعورياً ويحسّ بالراحة والسعادة.. فالبيئة تمنح الطفل انطباعات وصُوَراً ومشاعر وجدانية خاصّة عن العالم المحيط به من سماء ونجوم وقمر وشمس وأشجار وبحار وأنهار وصحراء وجبال...، والبيئة الطبيعية تُساعد الطفل على استكشاف العديد من الأشياء ممّا يُساهم في تفتّح طاقاته ونمو قابلياته الذهنية والنفسية والمهاراتية...، بل البيئة تلعب هذا الدور بحقّ الراشدين. ومن هنا دعانا القرآن إلى التفكّر والنظر والتأمّل والتدبّر في الآيات الآفاقية المنتشرة في البيئة الطبيعية وذكر عدّة نماذج وأمثلة في هذا المجال، لما له من دور في تكوين عقائد واتّجاهات ومشاعر خاصّة عند الإنسان، فالإنسان يتأثّر بالبيئة الطبيعية المحيطة به وينفعل عنها حتى في أمزجته وطباعه وأنماط تفكيره ومشاعره النفسية. وقد نفهم هذا المعنى من تشبيه أمير المؤمنين (ع) بقوله: «ألا وإنّ الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وُقوداً وأبطأ خموداً». ولكن هل هذا يعني أنّ الطفل ابن بيئته الطبيعية، بمعنى أنّها تشكّل ملامح شخصيّته بنحو لا يكون فيها إلّا عنصراً متأثّراً ومتلقياً ومنفعلاً؟
إنّ أزمة المدرسة الحتمية تكمن في اعتمادها نظرية العامل الواحد في تفسير علاقة البيئة الطبيعية بالإنسان، وهو التأثير الحتمي والجبري، في حين أنّ هذه الأطروحة - التفسير على أساس العامل الواحد - ليست علمية في أيّ مجال من مجالات فهم الإنسان، لذا يذهب السيِّد محمّد باقر الصدر إلى أنّ التصوّرات التي اعتمدت العامل الواحد في فهم الإنسان باءت بالفشل، كما حصل عند سيجموند فرويد من خلال نظرية الغريزة الجنسية، والماركسية في المادّية التاريخية... إلخ، ومن هذا الباب ينقض أيضاً على نظرية الحتمية الجغرافية، معتبراً أنّ «كلّ هذه المحاولات لا تتّفق مع الواقع، ولا يقرّها الإسلام، لأنّ كلّ واحد منها حاول أن يستوعب بعامل واحد تفسير الحياة الإنسانية كلّها».
فالملاحظة الأولى في نقد النظرية الحتمية، عدم منطقية وعلمية نظرية العامل الواحد في تفسير هُويّة الإنسان ونشاطاته. والملاحظة الثانية التي يُمكن تسجيلها أيضاً هو اختلاف المجتمعات المتشابهة في الظروف البيئية من حيث مناهج التفكير وأنماط الحياة والخصائص النفسية.
والملاحظة الثالثة أنّ الإنسان عنصر فاعل في البيئة ومؤثّر في الطبيعة، إلى درجة أنّ التطوّر العلمي والتقني منح الإنسان مساحة أكبر في مجال تسخير الطبيعة واستثمارها لصالح أهدافه.
والخلاصة أنّ الجغرافيا البيئية مؤثّرة نسبياً - بغضّ النظر عن نسبة التأثير كمّاً وكيفاً-، ولكن تأثير البيئة الجغرافية أوّلاً قابل للتغيير، وثانياً هو أقل بكثير من تأثير جملة عوامل أُخرى متشابكة ومعقّدة ومتداخلة تلعب دوراً في رسم شخصية الطفل وهُويّته، منها الوراثة، ومنها البيئة البشرية، ومنها التربية والتعليم، ومنها التفاعلات الداخلية في نفس الطفل مع الطبيعة والأفكار والأشياء والأشخاص... ومنها عوامل غيبية، حيث إنّ من أخطر المشكلات التي يواجهها الفكر الغربي هو عزل التربية الإلهيّة عن التدخّل في مسارات صناعة هُويّة الطفل والإنسان.
ولذا، فإنّ تصنيف أجناس البشر على أساس العامل البيئي هو خطأ منهجي، لأنّ ما قد يعتقده علماء الاجتماع أو التربية أنّه نتيجة العامل البيئي قد يكون نتيجة جملة هذه العوامل الأُخرى التي تشكّل مجتمعة المقتض أو العلّة لتشكّل هويّة أبناء المجتمع بنحو مشترك من حيث الطباع والأمزجة والأفكار والمشاعر والتصوّرات، خصوصاً أنّه لا يمكن عزل تلك العوامل لدراسة البيئة كمتغيّر مستقلّ دالّ في المعادلة، لأنّ العوامل الأُخرى تلعب دوراً أهمّ في عملية تشكيل الهُويّة، فكيف يُمكن عزل عامل تأثير البيئة البشرية مثلاً، أي مجموع الموروثات الثقافية والمشاعر والتصوّرات والعادات والتقاليد المشتركة التي تنتقل إلى الأجيال عن طريق التنشئة الاجتماعية، فتوجد اشتراكاً فيما يعتقد أنّه صنيعة البيئة الطبيعية؟!
* المنهج الجديد في تربية الطفل، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق