إنّ الأطفال مولودون ولديهم حاجة أولية وهي أن يكونوا بالقرب من آخرين من أفراد المجتمع. وهذه الحاجة ليس لها شكل واحد محدد يفضله الطفل عن غيره، بل تظهر في عدة أشكال تختلف من طفل إلى آخر، ومن مرحلة إنمائية إلى مرحلة أخرى.
بعض المحيطين بالطفل يستطيعون أن يقوموا بدور المستثير للطفل أكثر من البعض الآخر. ومعنى هذا إذا وجد الطفل من يشبع حاجته إلى الاستثارة بالدرجة التي تتفق مع المستوى المماثل له، فإن مثل هذا الشخص هو الذي يفضله الطفل عن غيره من حيث التعلق. أي أنّ الطفل يتعلق بهذا الشخص الذي يستطيع أن يشبع حاجات الطفل المرتبطة بالتعلق بأن يحتضنه ويلاعبه ويحادثه ويبتسم له ويستثير انتباهه أكثر من الذي يهتم فقط بتغذيته وتنظيفه. ثمّ يضعه في فراشه، أو بين ألعابه. ويجلس معه فقط – كمراقب وليس كمشارك – ولا فرق هنا فيما إذا كان هذا الشخص هو الأُم، أو الأب.. والتعلق بأنّه رابطة انفعالية قوية يشكلها الطفل مع مقدم الرعاية الأساسي وتصبح في ما بعد أساساً لعلاقات الحب المستقبلية وتتحدد نوعية التعلق attachment quality بمدى اعتماد الطفل على الشخص الذي يتعلق به كمصدر للأمن يؤدي إلى شعور الطفل بالسعادة والفرح والأمن عندما يكون قريباً من مقدم الرعاية، والشعور بالتوتر والانزعاج عندما ينفصل عن مقدم الرعاية مؤقتاً. ويكن التعلق الرئيس للطفل مع أمّه، إلا أنّه قد يتشكل تعلُّق بأفراد آخرين ممن يتفاعلون معه بشكل منتظم كالأب وإنّ الهدف من نظام التعلق هو وصول الفرد إلى الإحساس بالأمن، فيشعر الفرد بأنّ العالم بيئة آمنة مطمئنة، وأنّه بإمكانه أن يعتمد على آخرين فيها كمصدر حماية، مما يسمح له باكتشاف البيئة والارتباط بالآخرين بطريقة فعالة، بأن وجود علاقة التعلق في حد ذاتها يعتبر مفتاحاً للبقاء على قيد الحياة، ويعتبر في الوقت نفسه مصدراً للحماية.
يرى معظم المشتغلين بعلم النفس أن علاقات الطفل الأولى تكون بمنزلة حجر الزاوية في تكوين الشخصية، وتعتبر نظرية التعلق أنّ الأُم تحتل مركزاً مهماً في تطور السلوك عند الطفل ونمو العلاقات المتبادلة بينه وبينها كحاضنة. إلا أنّه يمكن لسلوك التعلق أن يتجه إلى شخص آخر بالإضافة إلى الأُم. ففي عمر الثمانية عشر شهراً يميل الطفل إلى إبداء هذا السلوك تجاه الأب، وخصوصاً مع تزايد اهتمام الآباء المطرد بشؤون الطفل.
إنّ الفرصة التي تتاح للأب لكي يقوم بالتفاعل مع الطفل لفترة قصيرة، ولكنها مليئة بشحنة انفعالية قوية، كلّ مساء، قد تفوق في تأثيرها الساعات الطوال التي تقضيها الأُم مع الطفل مهمومة مكدرة أثناء النهار، وإن دور الأب في التعلق يصبح بارزاً في وقت لاحق من الذي يحدث مع الأُم. وبالتالي فإن تأثير علاقة الأب والطفل قد يكون مهماً بشكل متزايد ومستمر، ويمكن ملاحظته أكثر كلما كبر عمر الطفل وإنّ التعلق بالأب يلعب دوراً رئيساً في النمو الاجتماعي والعاطفي للطفل.
ينشط نظام التعلق آلياً عند إدراك تهديد واقعي أو محتمل للأمن، خاصة في أوقات الشدة فيدفع الفرد للسعي للقرب من شخص التعلق أو النموذج العقلي الممثل له، والحفاظ على هذا القرب الفعلي أو الرمزي حتى يسترد الفرد لحالة الأمن والحماية.
وأشارت الدراسات النفسية إلى أن نسبة الأطفال الذين لديهم تعلُّق آمن مع الأب كانت متساوية مع نسبة تعلقهم بالأُم، وأنّ التعلق كان ثابتاً مع مرور الوقت، وتشير الدراسات إلى نوعية التفاعل في الاتصال بين الأب والطفل (في الأنشطة الاجتماعية والتربوية والترفيهية ومدحهم وتشجيعهم والمشاركة في توجيههم وانضباطهم)، يكون لها نتائج إيجابية على الحالة العامة للطفل وليس كمية الاتصال فقط.
من أهم الوظائف التي يحققها أشخاص التعلق ومنهم الأب هي:
1- أن يكون الأب بالنسبة للطفل هدفاً – كشخص تعلُّق – يسعى الطفل للمحافظة على القرب منه والبقاء معه، فالمحافظة على القرب تزيد من شعور الطفل بالأمن النفسي.
2- أن يكون الأب للطفل ملاذاً آمناً يلجأ إليه الطفل عندما يشعر بالضيق والتوتر، فيبحث عنه ليشعر بالأمن والراحة والتهدئة، فإن استجابته الفورية من الأب – كشخص التعلق – توفر ملاذاً آمناً جسدياً وعاطفياً لتهدئة نظام التعلق لدى الطفل.
3- أن يكون الأب للطفل قاعدة آمنة، قاعدة الأمن تعني أنّ الوجود النفسي والبدني أو الانفعالي للأب والمتمثل في إشباع حاجات الطفل الأساسية وإشعاره بالحب والاهتمام والرعاية والحماية واللعب معه، وفرض ضوابط معقولة عليه تجعل الطفل يُكون رابطة تعلُّق آمنة secure attachment bond ويتكون لديه الشعور بالثقة في ذاته وفي كفاءة الرعاية الوالدية، مما يتيح للطفل المبادأة واستكشاف البيئة.
لذا فإنّ التعلق بالأب يلعب دوراً رئيساً في النمو الاجتماعي والعاطفي للطفل. وبرغم حقيقة أنّ الآباء يقضون وقتاً أقل من الأُمّهات مع الطفل فإن نوعية كفاءة التفاعلات بينهم وبين أطفالهم تكون أكثر أهمية في تحديد تلك العلاقات الاجتماعية، فنوعية التعلق من المحددات الكيفية وليست الكمية في التواصل الاجتماعي والعاطفي للطفل.
المصدر: مجلة البيت العربي/ العدد 29 لسنة 2014 للكاتب د. صفية فرجاني
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق