• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رمضان وحرارة الصيف

أ.د. محمود عباس*

رمضان وحرارة الصيف

بدأت الدورة الرمضانية الجديدة، وفتحت الجنّة أبوابها للصائمين والقائمين والركع السجود، فبشرى لمن قدّم أوراق إعتماده إلى الله ليفوز برضوانه تعالى: (في جَنَّةٍ عالِيَةٍ * قُطُوفُها دَانِيَةٌ * كُلُوا واشرَبُوا هَنِيئاً بِما أسلَفتُم في الأيّامِ الخالِيَة) (الحاقة/ 22-24).
وإذا كانت الجنّة مطلباً للصائمين والصائمات، فمرحباً بك يا رمضان في حرارة الصيف، فكل مشقة من أجل الجنّة تهون، بل تهون النفس في سبيل الله من أجل جنّة غالية (وفِيها ما تَشتَهِيهِ الأنفُسُ وتَلَذُّ الأَعيُنُ وأنتُم فِيها خالِدُونَ) (الزخرف/ 71).
وإذا إشتدّ بك العطش في شدّة الحر، فاعلم أنّه مهر الحسناء الغالية (ومَن يخطب الحسناء لم يغله المهر)، فالجنّة في رمضان هي الحسناء المخطوبة، فلا تبخلوا عليها بأغلى المهور. وأغلى ما تقدِّمه إلى حسناتك وأنت صائم في هذا الحر هو أن تصبر على شهوة النفس وشدة العطش. فإن غازلتك شهوة جامحة فغض الطرف عنها، فما أحلى ولا أغلى ولا أعظم ولا أكرم من إشباع كل شهواتك في الجنّة (لَهُم ما يَشاءونَ فِيها ولَدَينا مَزِيدٌ) (ق/ 35).
وإن داعبتك شربة ماء باردة وأنت ظمآن، فقل لها بلسان المشتاق إلى شراب الجنّة: إلى اللقاء أيّتها اللعوب، فموعدنا الغروب وكل آت قريب.. وإن أحسست أنّ النهار طويل وأنّ الصيام في هذا الحر ثقيل وسولت لك نفسك أمراً (فَصَبرٌ جَمِيلٌ واللهُ المُستَعَانُ على ما تَصِفُونَ) (يوسف/ 18).
أعرف كما يعرف الجميع أنّ نهار الصائم طويل وأنّ الصيام في هذا الحر الشديد ثقيل، ولكننا نؤمن بأنّ الثواب على قدر المشقة وأن أجرك صائماً في شدّة الحر يختلف عن أجرك صائماً في أجواء الربيع أو الشتاء، ثمّ أنت في النهاية من الصابرين الفائزين بالمساكن الفاخرة في جنّة مكيفة تكييفاً إلهياً لا تشعر فيها بحرارة الشمس ولا زمهرير الشتاء، هذا قرار ربّك ووعده للصابرين يتلى عليكم في كتاب ربّكم، فيقول سبحانه: (وجَزاهُم بِما صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيها على الأرَائِكِ لا يَرَونَ فِيها شَمساً وَلا زَمهَرِيراً * ودَانِيَةً عَلَيهِم ظِلالُها وذُلِّلَت قُطُوفُها تَذلِيلاً) (الإنسان/ 12-14)، ألا يستحق هذا النعيمُ أن تكون من الصابرين على حرارة الصيف وأنت صائم؟ وهل يشعر المؤمن بقيمة الصبر وحلاوة الأجر إذا كان ضعيفاً متهالكاً في مواجهة الحر؟ ثمّ انظر إلى عظمة مَن تكون في خدمته في رمضان، إنّه السيِّد المولى الكريم الذي تصوم من أجله، وتصبر على الطاعة في الأجواء القاسية من أجله، ولهذا كان أجر الصائمين مفتوحاً عنده بغير سقف أو حساب (إنّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أجرَهُم بِغَيرِ حِسابٍ) (الزمر/ 10).
مَن تعلّق قلبه بأحوال الآخرة صغر في عينيه متاع الدنيا، وهانت عليه مكاره الحياة. هذا بإختصار هو تفسير أحوال المؤمنين في أزهى عصور الإسلام، فكانوا لا يمنعهم من المسارعة إلى الخيرات وفعل الطاعات حر شديد ولا برد كالجليد.. فقلوبهم وعقولهم مشغولة بالتطلُّع إلى الجنّة ونعيمها وبالنجاة من عذاب جهنّم وحرّها. ومن دعاء عباد الرحمن (رَبَّنا اصرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إنّ عَذابَها كانَ غَرَاماً) (الفرقان/ 65).
ومَن كان حريصاً على النجاة من حر جهنّم، فإنّه لا يقيم وزناً لحرارة الدنيا مهما بلغت شدّتها، بل لا يسمح لحر ولا برد أن يعطلا مسيرته نحو الغاية المنشودة لأنّ المتطلِّع إلى القمم لا يعطله ما يحدث في السفوح، فهو يمضي إلى تحقيق غايته مستهيناً بالمصاعب والمتاعب:
ومَن تكن العلياء همة نفسه*** فكل الذي يلقاه فيها محبب
كانوا يصومون في حر الصيف وما تعطل فيهم النضال بالسيف، ولكن إذا غاب حرُّ جهنّم عن فكرنا وشعورنا تعاظم حرُّ الدنيا في حسِّنا وتقديرنا حتى يصير هو الحر الوحيد الذي لا نعرف له نظيراً ولا نحسب لغيره حساباً، ولهذا يفر بعضنا من حر الدنيا بسلوكيات توقعه في حر جهنّم وهو لا يدري إلا حين يقال له: (هذِهِ جَهَنَّمُ التي كُنتُم تُوعَدُونَ) (يس/ 63).. اسأل الهاربين من الصيام خوفاً من الحر.. وقديماً فعلها نفرٌ من المنافقين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله (ص) بحجة الحر الشديد (لا تَنفِرُوا في الحَرِّ) فسخر الله من مقالتهم، فأنزل على لسان نبيّه (ص): (قُل نارُ جَهَنَّمَ أشَدُّ حَرّاً لَو كانوا يَفقَهُونَ) (التوبة/ 81).
ولو فقهنا لأدركنا أنّ أحوال الطقس في جهنّم لا نظير لها في نار الدنيا مهما بلغت حرارتها.. ففي بحث علمي منشور، قدّر بعض العلماء من غير المسلمين أنّ درجة الحرارة في جهنّم تصل إلى 268 درجة، وقدّموا لذلك العديد من البراهين العلمية فنحترم إجتهادهم على ما شابه من تقصير، فقد طالعتنا السنّة النبويّة المطهّرة بأن درجة الحرارة في جهنم قد تصل إلى سبعين ضعفاً لدرجة حرارة النار في الدنيا، ففي الحديث: "ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنّم، قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: فُضِّلت عليهنّ بتسعة وستِّين جزءاً كلهنّ مثل حرِّها" .
فاختر أي نار توقد وقس درجة الحرارة ثمّ إضرب في سبعين تشعر بأحوال الطقس في جهنّم، وتتضاءل في حسّك حرارة الصيف.. فليتك تجعل من صيامك في هذا الحر زورقاً للنجاة من حر جهنّم (فَمَن زُحزِحَ عَنِ النّارِ وأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ) (آل عمران/ 185).

 

*أستاذ بجامعة الأزهر ووكيل كلية اللغة العربية الأسبق المصدر: كتاب (القرآن وقضايا العصر)

ارسال التعليق

Top