د. محمد بن موسى الشريف
ها قد أقبل رمضان ببركاته وأنواره، وخيراته وجلاله، وهو خير شهور السنة وأعظمها، وسر عظمته نزول القرآن فيه، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...) (البقرة/ 185)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة القَدْرِ) (القدر/ 1)، وقال جلّ من قائل: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (الدخان/ 3).
فهذا الشهر شُرف وعظم بإنزال القرآن فيه، هذا الكتاب العظيم الذي أخرج العرب الأوائل من الظلمات إلى النور، ومن العتو والنفور إلى الطاعة والإقبال، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن التعلق بسفساف الأمور ودناياها إلى مصاولة جلائها وعظائمها، ولم يكن هذا التغيير قاصراً على العرب فقط، بل إن كل أُمّة استضاءت بنور القرآن وهديه كان لها نصيب جليل من التغيير بقدر ما أقبلت على هذا الكتاب العظيم.
- بركة هذا الشهر العظيم:
والناظر لحال الناس في هذه الأزمان في رمضان يرى عجباً، فهذه المساجد تمتلئ بالمصلين الذين يحرصون على البقاء فيها مدة طويلة بين الصلوات وقبلها وبعدها لقراءة القرآن، وأكثر هؤلاء قلما يُرون في المساجد في غير رمضان!!
وهناك مسألة مهمة وهي الإكثار من الختم في رمضان والتنافس فيه، فإنّ كثيراً من الناس يختم مرّة ومرّتين وثلاثاً، وربّما ختم بعض الناس أكثر من ذلك، فهل هذا هو الأفضل والأحسن؟
- عنوان القرآن:
إني أرى – والله أعلم – أن يقتصر المرء على ختمة واحدة في رمضان، يتلوها بتدبر وتمهل ومُكث، وينظر في المعاني والتفسير، وينظر في شأنه مع أوامر القرآن ونواهيه، فذلك خير له من ختمات متتابعات، لا يكاد يلوي على شيء من التدبر والتفكّر والتفهم، وقد سئل أحد السلف عن عنوان القرآن فقيل له: إنّ لكل كتاب عنواناً فما عنوان القرآن؟ فقال وأحسن رحمه الله: عنوان القرآن هو قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29)، فالتدبر هو عنوان القرآن الأوّل والأعظم، وبه ساد الأوائل وفازوا، وبه وضعت الأسس العظيمة للحضارة الإسلامية الجلية.
فما الفائدة التي تعود على المرابي وهو يقرأ قوله تعالى مرّة ومرتين وثلاثاً في رمضان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة/ 278-279)، يقرؤها ويسمعها مراراً، ثمّ هو لا يرعوي ولا يكف، وما الفائدة التي تعود على شارب الخمر وهو يقرأ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 90)، ثمّ لا ينتهي ولا يرعوي، والشيء نفسه يقال عن الزاني والعاق... إلخ.
والأُمّة اليوم بحاجة إلى إحسان قراءة القرآن في رمضان، وإلى جودة النظر في آياته، وإلى الإنتقال من النظر إلى العمل، ومن القراءة باللسان إلى العمل بالأركان.
إنّ القرآن يحثنا على مكارم الأخلاق وكثير منّا ساءت أخلاقه، والقرآن يحثنا على النظر في الكون والأُمّة الإسلامية اليوم تعاني من التخلف عن الركب ومن التبعية لغيرها في كل شؤونها تقريباً، وإنّ القرآن الكريم ينهى المسلمين عن الوقوع في الفواحش وأكثر عواصم بلاد الإسلام اليوم تعج بالموبقات والفواحش من خمر وزنا وربا، وإنّ القرآن الكريم يأمرنا بتحقيق عقيدة الولاء والبراء وكثير من المسلمين حكاماً ومحكومين ضعفت هذه العقيدة في نفوسهم حتى والوا الكفار وعادوا الصالحين والمجاهدين! وإنّ القرآن العظيم يأمرنا بوضوح أن نعد العدة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ...) (الأنفال/ 60)، وأننا لن تتغير أحوالنا إلى الأحسن والأفضل حتى نغير ما بنا: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) (الرعد/ 11)، ثمّ نحن هؤلاء لا نتغير إلا قليلاً، ولا نعدّ لأعدائنا ما ينبغي من عُدة، ولا نقيم مجتمعنا على ما يجب أن نقيمه عليه من الدعائم القويمة.
ارسال التعليق