لا يعد إصلاح نظم التعليم في البلدان العربية موضوعاً جديداً، فقد طرح منذ بدايات القرن العشرين في سياق فكر الإصلاح والتجديد الذي انبثق في القرن التاسع عشر، كما طرح في سياق مواجهة الاستعمار الأوروبي.
لم يغب هذا الموضوع عن الدولة العربية المنبثقة عن الاستقلال، وأصبح الحديث عن التعليم فرصة لتعديد مناقبها وتأكيد أحقية الحكام بالحكم طالما اعتبروا أنفسهم الخيار الوحيد الممكن لتحقيق التنمية.
على المستوى العربي بدأ يطرح موضوع التعليم بعدما أصبحت الحكومات العربية هدفا للحركات الإسلامية التي رعتها في فترة ما. أما على المستوى العالمي فإنه أصبح يطرح كجزء من الإملاءات الأميركية في إطار مجتمع المعرفة الذي ينادي به المسؤولون الأميركيون.
فالمسألة إذن ليست مسألة أرقام حول نسب الأمية، أو زيادة عدد المتخرجين أو معدلات معرفة القراءة والكتابة، بل المسألة الأعمق التي يطرحها التعليم العربي -حسب رأيي- هي ماذا نقرأ؟ وماذا نكتب؟ فالمشكل يكمن في طبيعة الخيارات على مستوى الأهداف والبرامج، أي هل خطط التعليم ليلبي حاجات المجتمع العربي أم لتلبية حاجات الدولة وحاكميها؟ هذا هو الإطار الصحيح لمعالجة المسألة مع وعينا بالفوارق الكبيرة بين البلدان العربية.
التعليم العربي إنتاج لشرعية الدولة
لا أتحدث هنا باعتباري كاتبا وجد في التعليم إحدى مواده للكتابة الصحفية، بل انطلاقا من تجربة شخصية في مجال التعليم انتقلت خلالها في العمل كمدرس بين بلد مغاربي وآخر خليجي، ما مكنني من الوقوف على الأبعاد السياسية والاجتماعية وكذلك الثقافية لهذا القطاع.
ورغم وعينا بالفوارق الكبيرة الموجودة بين بلد وآخر فإنه بالإمكان الحديث عن بنية مشتركة للتعليم فيها، لعل أول عناصرها هو تلك العلاقة العضوية بين التعليم والدولة العربية بعد الاستقلال (بمعنى غياب الاحتلال المباشر).
شكل التعليم عنصرا حيويا في الخطاب الرسمي للدولة العربية المستقلة، فهو قطاع إستراتيجي بأتم معنى الكلمة.
أولا- لأنه يمس شريحة واسعة من المجتمع، وهذا يعني إمكانية توظيفه لمراقبة الأفراد وتأطيرهم في بوتقة نفوذ الدولة.
ثانيا- لأن هذه الخدمة توفر إمكانية فريدة لإعادة إنتاج الدولة عبر تحنيط البرامج في مسائل تتعلق بالولاء للدولة وللقائد الرمز، أي إعادة إنتاج الأيدولوجيا الرسمية حول شرعية الحكم.
ثالثا- لأن التعليم يوفر لهذه الدولة الفتية مواردها البشرية من الكوادر والموظفين وحتى من المنظرين.
لقد هيمنت هذه الأهداف المتعلقة بالسلطة أكثر من ارتباطها بأهداف تنموية على أغلب السياسات التعليمية في البلدان العربية (نقصد بالسلطة هنا ذلك النظام المبني على شبكة من المصالح المشتركة)، وهذا ما يفسر تلك المشاهد التي تكاد تتكرر في أغلب البلدان العربية وخاصة بمناسبة الأعياد والوطنية، حيث نشاهد أفواجا من الأطفال والشباب والشابات متوجهين إلى مدارسهم، كما نشاهد صورا مختارة لبعض المؤسسات التعليمية النموذجية نرى من خلالها مدى التجهيز العالي الذي تتوفر عليه.
فصاحب الدعاية يريد لفت انتباهنا إلى مدى الإنجازات التي تحققت في مجال التعليم كي لا نتجرأ ونسأله عن ذلك. إن التعليم في هذه الحالة ليس إلا شاهدا على نجاح السياسة الرسمية -الحكيمة دائما- في تحقيق التنمية.
كما عدّ التعليم شاهدا على الحرص الرسمي على الاهتمام بحقوق الإنسان، طالما مثل حق التعليم أحد بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وبالتالي ليس من حقنا أن نطالب بحقوق الإنسان طالما نتمتع بحق التعليم.
فالتعليم يطرح في سياق علاقته بالدولة أكثر من سياق علاقته بالمجتمع وحاجياته.. إنه يعيد إنتاج أيدولوجيا السلطة الضامنة بدورها لإعادة إنتاج شرعيتها. ونلاحظ هذا بكل وضوح في برامج مادة التاريخ، حيث يتم إعادة صياغة التاريخ كمعرفة لإعطاء دعم للأيدولوجيا الرسمية القائمة.
التعليم العربي وإعادة إنتاج المجتمع
تمثل الأنظمة الاجتماعية السائدة في البلدان العربية، مع هياكل الثقافة التي تسندها، إحدى منابع شرعية الأنظمة السياسية القائمة.
على هذا الأساس يبقى المجتمع العربي بتقليدية هياكله الاجتماعية والثقافية مصدرا مهما لشرعية الدولة، فهي حريصة على صيانة تقليدية الثقافة السائدة باعتبارها الضامن لإعادة إنتاج هياكل السلطة.
ويلعب التعليم في هذه الحالة دوراً حيوياً كوسيلة جماهيرية فعالة قادرة على الحفاظ على الوضع القائم. بأكثر وضوح، يمكن القول إن دور التعليم على هذا المستوى يتمثل في إعادة إنتاج الثقافة السائدة، ومن خلال ذلك إعادة إنتاج علاقات السلطة القائمة.
بالنسبة للجانب الثقافي لا تعتبر برامج التعليم خلاقة في أغلب البلدان العربية، أي وسيلة للتغيير الثقافي، بل هي على العكس من ذلك تجتر ثقافة السلف وتعطيها شرعية وحيوية بإدراجها ضمن المناهج الرسمية. تعليمنا يبرر السائد والموجود أكثر من تحفيزه على استكشاف الجديد.
ومن بين السائد والموجود الذي يعيد التعليم صياغته دون تغييره نجد الأنماط التي تمكن المجتمع من التفكير في ذاته والتعبير عنها، أي أنماط التفكير والتصور والتعبير عن نفسه.
هذه الأنماط التي تنفي الفرد والمجموعات الصغيرة كما تنفي الاختلاف وراء مفهوم الأمة أو الوطن الشامل والدولة الراعية للمجموعة الوطنية.
وبطبيعة الحال نجد وراء هذه الدولة إما القائد الرمز أو الحزب الواحد. هدف هذه المحافظة الثقافية هو ضمان ديمومة علاقات السلطة القائمة، سلطة الرجل على المرأة وسلطة جيل على آخر وسلطة فئة على أخرى.
التعليم أولا ثم التفكير ثانيا.. الحرب ضد الوعي
تفصل هذه الصياغة بين التعليم والتفكير رغم الترابط العضوي بينهما حسب أهم نظريات التعلم كما جاء بها جون بياجيه مثلا.
لقد تمكن التعليم العربي بعبقريته العربية من دحض "الادعاء الكاذب" لعلم النفس التربوي ففصل التعليم عن التفكير من خلال اعتماد برامج تعطي الأولوية للمحتوى التقني والوجداني على حساب التفكير الإبداعي العقلاني.
فنحن نلاحظ اليوم أن البرامج الرسمية المعتمدة في التدريس تشجع أكثر فأكثر على الاهتمام بالمواد العلمية والتقنية. لهذا التوجه ما يبرره بطبيعة الحال، أي ضمان حيز من المعرفة وكم من الخريجين القادرين على تطبيق توجهات الدولة التنموية وعلى اللحاق بركب التكنولوجيا، أي تكوين طبقة من التكنقراط الطيعين والقادرين على ضمان فاعلية قصوى للنظام القائم.
أما الجانب الثاني فيتمثل في ذلك الخلط بين التربية الدينية وبعض مواد العلوم الاجتماعية والإنسانية، فمن الصعب جدا التمييز بين برامج التربية الدينية -أي الإسلامية- من ناحية، وبين برامج اللغة العربية والتاريخ الإسلامي والفلسفة والجغرافيا من جهة ثانية.
ولكن ماذا ربحت مجتمعاتنا من وراء مثل هذه البرامج؟ الحصيلة الواضحة إلى اليوم هي النمو المفرط للتطرف الديني، وما التفسيرات الشعبية البسيطة حول تسونامي إلا دليل على ذلك.
وبعد أن مثلت القوى الاجتماعية الحية والمنفتحة -من صحفيين وفنانين وكتاب- الهدف الأول لهذا التطرف، أصبحت الدولة التي رسخت تلك البرامج التعليمية ثم الدول الكبرى التي رعتها مستهدفة بدورها.
في هذا السياق بالذات أي استهداف الدولة وحلفائها من الغرب، بدأت تطرح بإلحاح ضرورة تغيير المناهج للحد من توسع التطرف الديني و"الإرهاب".
غير أن المشكل بالنسبة لهذه الدول أنها أسست شرعيتها على مثل هذه البرامج، وبالتالي فإن التطرف الديني هو نتيجة طبيعية لخياراتها السياسية والثقافية بصفة عامة.
في نفس هذا السياق تندرج المطالب الأميركية بإصلاح نظم التعليم واعتماد برامج جديدة، فمشكلتهم مع الإرهاب والتطرف أنه يهدد مصالحهم وهم ليسوا معنيين بتهديده للمجتمع العربي.
نتذكر خلال السبعينات والثمانيات أن هذا الغرب كان من بين الداعمين للتطرف لمواجهة الفكر النقابي واليساري والقومي. إن ما يطلبه الأميركيون اليوم هو شن حرب على التطرف من خلال التركيز على الفكر الليبرالي، لتأطير الوعي العربي وتجريده من ذاكرته ورموزه.
إننا في حاجة أكثر اليوم إلى تعليم يعايش بشكل عقلاني المواد العلمية والعلوم الاجتماعية وتدريس الدين. ولا تقتصر البرامج على تدريس الدين، بل على تدريس الأديان.
وفيما يتعلق بالإسلام لابد من إبراز تنوعه من خلال تدريس مختلف التيارات والمذاهب من سنة وشيعة ومتصوفة وغيرهم، كما يجب تدريس الفلسفة الإسلامية مع رموزها مثل المعتزلة وابن رشد وابن الراوندي، أي ذلك التراث العقلاني الذي ينكره عنا الغرب ويسانده في ذلك الإسلاميون.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق