• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رماد الصمت

ظل دمعة

رماد الصمت
وأنا أقلّب طرفي خلف غيوم القلب، كانت اللحظة تُمطر حباً، وكانت بسمة العمر تقف على عتبات المغادرة. هناك.. حيث ذات ذهولٍ، على مرمى أمل، أطفأتْ حلمي الأخير وأشعلتْ رماداً للصمت حين جاءها من ترضى عشرته. تساقَطت من الأفق أحرف الوداع فانهمرت معها مفردات الخوف، وألقي القبض على آخر الأنفاس في رئة الفرح.. حاولتُ أن أبحث عن مساعدة، فلا أحد سوى الصدى يقاسمني الفاجعة. رفعتُ سماعة الهاتف علّي أجد صديقتها تلك، التي كانت تلجأ إلى حضنها كلما اختلفنا.. فردت عليّ أخرى.. سألتها عن شقيقة الروح.. فأجابت: إنها تكرهك حد التطرف..! كنت جالساً على حافة جرف عميق فأحسست بقلبي ينخلع من مكانه، كأنه يهوي في طريقه إلى الارتطام بقاع الجرف. وددت أن أصرخ في وجهها، إلا أنني تمالكت نفسي بعدما شعرت بنبرة صوتها الانتقامية. أخذتُ نفساً عميقاً كاد يخنقني، ثمّ سألتها بصوت متحشرج: ولكن، لِمَ تكرهني..؟ أجابت: لأنك أنت.. ولأنها صارت له..! حينها شعرت بيد عملاقة ذات أصابع مكسوَّة بالصوف انبثقت من أعماق الجرف ومنعت قلبي من السقوط، فهزتني قُشعريرة قوية جعلتني أسألها بصيغة مباشرة: ألأنها صارت له.. كان لزاماً عليها أن تخلع عقداً ونيف من الوفاء والطُّهر والحب..؟ أجابت بتهكُّم: أرجوك توقف عن الحديث وانكفئ على أوهامك، لا تطلق العنان لحضورك الذي قد يؤدي خارطة ظلها، فتسقط بين يديك مضرجة بالتيه. لقد غادرتك عن قناعة، حين اصطدمت بقدراتك المكبلة بأغلال العجز، وقلبك المسجون خلف قضبان الأحلام الممنوعة، ويديك المرفوعتين إلى سماء الأمل المُحال، فدعْها لعالمها الجديد. ضحكتُ بطريقة مؤلمة جعلتني أشعر بالقناع الآخر للبكاء، ثمّ رميتُ مسامعها بآخر سؤال في جعبتي الفارغة إلا منه: أتتحدثين بلسانها، أم إن ما تقولينه هو انعكاس حقيقي لحياتك العامرة بالفشل..؟ أدركت أنّ الأمر أعمق من مجرد مهاتفة لحظية تتوخّى السؤال عن الحبيبة فأجابت: بل أنا أتحدثها.. ناقلة إليك مساحة اللاوجود لحضورك على خارطتها المستقبلية. كانت قصتي العاطفية أمامي، وأنا أطل عليها من على حافة الجرح فشاهدت نوراً يعبُر الجرف العميق في اتجاهي، ويد عملاقة تحمله حتى أوصلته إلى صدري، ثمّ عادت أدراجها من دون ضوء. كنت في حاجة إلى أن أهدأ وأن أمسك بخيوط أفكاري. أخذت علبة الماء البارد الموجودة بجواري وسقيت جوفي، علّ برودته تهدىء قلبي المحموم كمّادة رجاء، اعتصمت بالصمت برهة، وهي ما تزال على الهاتف. كدت أصاب بالجنون من شدة ذهولي، مما أسمع من كلمات مُهينة تحاصرني بها تلك الفتاة المضطربة، لولا حدسي الذي جعلني أكتشف أنها تعاني جراحاً عاطفية لم تندمل بعدُ، وأن ما تقوله لا يعنيني في شيء، خصوصاً أنني على يقين أن عشبة القلب، سنبلة الشوق، غيمة الحنان، شمس طفولتي الهاربة، لا يمكن لها أن تطارح هذا السقوط العاري، وهي التي أمطرتني بهمسها الحالم وتوّجتني باكاليل الشوق والحنين والعشق على مدار عمر وبضع سنين، إلا أن ما قالته صديقتها كان وقعه صاخباً في مسامعي، ما جعلني أسير بخطاي إليّ، فاراً من الظل إلى هجير المواجع، لكنني لم أقف في مهب الجرح كثيراً. إذ إنّ العمى العاطفي حجب عني الرؤية والإدراك معاً، فأبرمت معاهدة بيني وبيني تدعو إلى الصمود أمام الأعاصير والنوازل المباغتة. لذلك، عدت مُترَعاً بالبوح مثقلاً بالجرح أخاطبها: أو تتحدثين عن البسمة الـ.. مازالت شهقة ضوئها تسري في أوردتي مذ استباحني طرفُها ذات أنين؟ يا غادة القهر، تطهري من رجس زيفك بندى ضوئها، ولا تلمزي كينونتي الأولى بما لا تستسغه مداركي. فأنا الذي أسقيتها لحظي منذ أن كانت نبتة، ورسمت من شفق الصباح ظلالها، وغسلت فؤادها بالضوء، وجمعت فيها معادن الدنيا، فصارت لؤلؤة الحياة وعقدها الثمين. لا تقولي إنها تكرهني لأغادرها ملسوعاً بجمر شفتيك ونار لسانك، بل جولي بوجهك العابس على مقربة من أوردتها، ثمّ اسألي عني هناك، فإن لي في كل زاوية مرفأ، وفي كل منحدر ظلالاً، وفي كل شريان معلق قطعة ضوء. وإن استطعت فتقدمي خطوةً شطر قلبها النابض، وستجدين الحب الذي صنعتُه بكلتا يديّ يسبَح منفرداً وهو مشعٌّ ببهاء الحضور. غير أنك إن حاولت الولوج إلى حيث أنا، ستحترقين، لأن الضوء الآتي من أقاصيها أكبر من رؤيتك غير المتجانسة مع الحقيقة. لذلك، عليكِ أن تحلِّقي ببصرك عالياً لحظة بزغ الفجر، ثمّ أمعني النظر ليستبين الخيط الأبيض من الأسود.. فذاك أنا والليل أنتِ والنهار حبيبتي. شيء من الصمت يتسرب عبر خيط الهاتف، وإشارة خجول تعلن عن انتهاء المكالمة.

*صنعاء – اليمن

ارسال التعليق

Top