• ١٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المواقف الصلبة في حياة الإمام السجّاد (عليه السلام)

عمار كاظم

المواقف الصلبة في حياة الإمام السجّاد (عليه السلام)

عاش الإمام زين العابدين (عليه السلام) طفولته الأُولى حتى بداية شبابه في أجواء الاهتزاز السياسي في الواقع الإسلامي آنذاك، فهو لم ينفتح في طفولته الأُولى على الواقع الذي كان يعيشه جدّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، لأنّه استشهد وعمره سنتان، ولكنّه تمثّل في السنين العشر التي عاشها مع عمّه الحسن (عليه السلام)، كلّ ذلك الواقع الصعب الذي واجه الإمام الحسن (عليه السلام)، وواجه التجربة آنذاك، لأنّه العهد الذي أحاطت فيه الظروف القاسية بالإمام الحسن (عليه السلام)، من خلال كلّ نقاط الضعف التي عاشها المجتمع الإسلامي، وكلّ أوضاع التعب التي حلّت بالمسلمين آنذاك من خلال الحروب المتتالية.

وهكذا عاش مع أبيه الحسين (عليه السلام) ومع عمِّه الحسن (عليه السلام)، وكان يختزن منهما كلّ معنى الروح، وكلّ انفتاح الخلق، وكلّ عمق الجراح التي كانا يعيشانها بصمت، ومأساة عمّه الحسن (عليه السلام) الذي قضى مسموماً، ثمّ عاش من بعد ذلك تجربة أبيه الحسين (عليه السلام) وهو ينتظر اللحظة الحاسمة التي يريد أن يقف فيها في مواجهة الحكم الأموي، لأنّ المرحلة التي تلت وفاة الإمام الحسن (عليه السلام) وموت معاوية، كانت مرحلةً لم يجد الإمام الحسين (عليه السلام) خلالها أية فرصة للانتفاض، باعتبار أنّه كان قد وقّع مع أخيه الحسن (عليه السلام) على أن لا يتحرّك أيّة حركة في مواجهة معاوية نتيجة الصلح أو الهدنة.

ونستطيع أن نستوحي أنّ عليّ بن الحسين (عليه السلام) اختزن كلّ أبيه في عقله وفي قلبه، وبذلك رأينا الإمام زين العابدين (عليه السلام) في كربلاء من أكثر الرجال صلابةً، فعندما نحدّق في داخل كربلاء في المصادر الموثوقة منها، فإنّا لا نجد أنّ زين العابدين (عليه السلام) واجه أيّ موقف بالجزع أو الحزن البارز الذي يعبِّر عن نفسه بهذا الطريقة الحادّة، بل إنّنا نراه يستمع إلى أبيه وهو ينعى نفسه إلى أخته السيِّدة زينب (عليها السلام)، وتخنقه العبرة، ويحبس حزنه في صدره.

وبعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، كان الصلب في مواقفه، والذي كان يتابع البقيّة الباقية من نساء الحسين (عليه السلام) ونساء أهل بيته وأصحابه.. فالإمام السجّاد (عليه السلام) في مواقفه، لم يخضع لأية حال ذلّ. وقد رأيناه في مجلس يزيد وفي الطريق إليه، عندما استمع إلى ذلك الشيخ وهو يقول: الحمد الله الذي فضحكم وخذلكم ونصر أمير المؤمنين يزيد عليكم، نراه يقف بكلّ هدوء وبكلّ عقلانية وبكلّ صلابة، ليفتح عقل هذا الشيخ على الحقيقة التي ضاعت منه بفعل الدعاية الأموية المضادّة، عندما يقول له: «يا شيخ، هل قرأت القرآن؟ فقال: نعم قد قرأته، قال: فعرفت هذه الآية: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك، قال عليّ بن الحسين (عليه السلام): فنحن القربى يا شيخ.. قال: هل قرأت هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك، قال عليّ (عليه السلام): فنحن أهل البيت الذين خصصنا بآية التطهير. قال: فبقي الشيخ ساعةً ساكتاً نادماً على ما تكلّمه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهُمّ إنّي تائب إليك ممّا تكلّمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللّهُمّ إنّي أبرأ إليك من عدوّ محمّد وآل محمّد من الجنّ والإنس».

وهكذا لاحظنا أنّ حزن الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي كان يختزنه في عقله وفي قلبه، أعمق ما يكون، وإنّنا لا نتصوّر حزناً لإنسان أعمق من حزن هذا الإمام، لأنّ القضية ليست مجرّد قضية أن يُقتَل أبوه أو يُقتَل أخوه، ولكنّ المسألة هي أنّه في عدّة ساعات، تتمثّل المجزرة أمامه بكلّ وحشيّتها، وبكلّ همجيّتها، وبكلّ أحزانها، وثمّة فرق بين الإنسان الذي تأتيه المشكلة دفعةً واحدة، ومن تأتيه لتأكل إحساسه لحظةً لحظة، بحيث إنّها تأكل قلبه وتأكل إحساسه وكلّ مشاعره.. نفسّر حزن زين العابدين (عليه السلام) على أبيه الحسين والصَّفوة الطيِّبة من أهل بيته وأصحابه، على أنّه كان حزناً إنسانياً، ليعبِّر فيه عن إنسانيّته وعن ذكرياته الأليمة لمشاهد الواقعة التي تقطّع نياط القلب: «كلّما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلّا تذكرتُ فرارهنّ من خيمة إلى خيمة»، أو «هل سمعت أذناك أم رأت عيناك أنّ امرأةً منّا أُسرت أو هُتكت قبل يوم عاشوراء؟»، فمن الطبيعي أن يحفر الحزن في قلبه، كأيّ إنسان يتمثّل المأساة بكلّ أعصابه وبكلّ مشاعره، ولابدّ من أن يعيشها في نفسه، لأنّ الله يريد للإنسان أن يعيش عاطفته اتباعاً لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما مات ولده إبراهيم: «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلّا ما يرضي الربّ، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون»، هكذا كانت عاطفة زين العابدين (عليه السلام) هادئة حزينة وصلبة في نفس الوقت؛ الحزن الذي يتمثّل في بعض دموعه وفي بعض كلماته، بحيث إنّ الذي يقف أمامه يخشع في هذا المشهد.

ارسال التعليق

Top