• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رسالة الإسلام من خلال القرآن

عمار كاظم

رسالة الإسلام من خلال القرآن

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185)، ويخاطب رسوله العظيم بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، ويصف القرآن بقوله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 2). نعم، لقد شاءت إرادة الله وحكمته، أن يبدأ نزول القرآن في شهر رمضان المبارك، ليخرج العالم به ما كان يتخبط فيه من ضلال، ويشقى به من ظلم، وليكون فارقاً بين الحقّ والباطل في العقيدة والأخلاق، ولولا هذا ما اتّصلت السماء بالأرض برسالة جديدة للعالم كلّه، وهي الإسلام خاتم الأديان والرسالات الإلهية. لقد كان العرب قبل الإسلام يعبدون ما ينحتون من أصنام وأوثان وتماثيل، يتخذونها أرباباً من دون الله، فلمّا بعث الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتوحيد، قال أولئك المشركون: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (ص/ 5). ومن غير العرب مَن كانوا يعبدون إلهين اثنين، أحدهما للخير، والآخر للشرّ، فجاء القرآن يبيّن لهم أنّ هذا ضلال وباطل، وقال: (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (النحل/ 51). وجاء ثورة على الشرك، وذلك بأن دعا إلى عبادة إله واحد، هو ربّ العالم كلّه، وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما، وهو ملك الأمر كلّه، لا يملك غيره نفعاً لأحد ولا ضراً، وكان فاتحة هذا الوحي الجديد الخالد في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان الذي نعيش في رحمته وبركته فترة من الزمان كلّ عام.

كما كان هذا القرآن الذي بدأ نزوله في رمضان فارقاً بين الحقّ والباطل، كان كذلك هدى ورحمة للعالمين، وذلك بما قرره من مبادئ وأصول لم تكن قد عرفتها الإنسانية من قبل، وبما جاء به من شريعة لا عهد للعالم بمثلها، أو بما يُدانيها في رحمتها وعدالتها. لقد قرّر الإسلام وحدة الناس جميعاً، من الناحية الاجتماعية التي تقتضي المساواة في الحقوق والواجبات، لا فرق بين جنس وجنس، ولا بين فرد مهما يشرف نسبه، ويعل جاهه، وبين فرد وآخر، ولو كان من عامّة الناس. فقد محا من أوّل الأمر نعرة الجاهلية، وحرم التفاخر بالأحساب والأنساب، إذ أبان أنّ أصل الناس جميعاً واحد، وهذا إذ ينادي القرآن العظيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). وهذا أيضاً حين يقول رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلّا بالتقوى». وإذاً، فلا تفاضل بالأجناس، أو الأنساب، أو الغنى، أو غير ذلك، ممّا تعارفه الناس من قبلُ مقياساً للقيم، وأساساً للتفاضل، وليس هناك طبقات يطغى بعضها على بعض، ويستعبد بعضها بعضاً، بل هناك المساواة في الحقوق والواجبات، ولا فضل لأحد على أحد إلّا بقدر ما يقدمه لدينه ووطنه وإخوانه في الإنسانية من خير، ومن أجل هذا كان الإسلام رحمة للناس جميعاً. الإسلام إذاً، الذي استهل نزوله في شهر رمضان المبارك، هو الذي حرر حقّاً الضعفاء من سلطان الأقوياء وجبروتهم، ونجد هذا واضحاً في كثير من آي القرآن، وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك في سيرته.

هكذا كان شهر رمضان إيذاناً بعهد جديد للإنسانية كلّها، وفارقاً بين الحقّ والباطل، وكان هدى ورحمة للعالمين من جميع الأجناس والألوان والشعوب. فالجميع إخوة يتعاونون في السرّاء والضرّاء، ويساعد قويهم ضعيفهم، ولو لم يجمع بينهم الدِّين، لأنّهم جميعاً إخوة في الإنسانية. ومن هنا نشأت مسؤولية الدولة عن رعاية المواطنين جميعاً، المسلمين منهم وغير المسلمين، فلهؤلاء - كما يؤكد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - ما لنا من الحقوق، وعليهم ما علينا من الواجبات. ومن هذه الأخوّة في الإنسانية والدِّين، ما قرّره الإسلام، وهو أن يكون في أموال الأغنياء حقوق مفروضة للسائل والمحروم، والمحتاج إلى المعونة المالية. ولا عجب في شيء من هذا، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً»، ويقول: «مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى».

هذا، وللدين الإسلامي تكاليفه التي تعبّدنا الله بها، وعباداته التي فرضها علينا، ولكلّ من هذه التكاليف والعبادات أغراضه وأهدافه وغاياته، ومن تلك الغايات ما يعود على الفرد خاصّة، ومنها ما يعود على الفرد والمجتمع معاً، ومن هذا الضرب الثاني الصيام. ولذلك نرى الله تعالى قد كتبه علينا وعلى مَن سبقنا من الأُمم، وهذا إذ يقول جلّ شأنه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (البقرة/ 183-184). كلّ هذا نجد الصيام يمهد له، بل نجد الصيام يحققه للإنسان، متى عرف حكمة الصوم وأخذ نفسه بتحقيقها؛ وبهذا يعين الصيام إلى حدٍّ كبير، على تكامل شخصية الإنسان.

الصّائم يصمد أمام الأهواء ويعمل على صدّها، فتراه مواجهاً شرساً، يصوم بصره عن الحرام، ولسانه عن الكلام المنحرف، وسمعه عن كلام الفتنة، ويصوم قلبه عن مشاعر الحقد والغلّ، ويصوم عقله عن الترّهات والضّلالات. إنّ الصائم هو الذي يقيم فعل عبادة الصوم، بمعنى أنّه يركز معاني هذه العبادة في نفسه، فيضبط سلوكه ومشاعره، بما يؤكّد حسن ارتباطه بالله عن إخلاص وتوجّه سليم، بحيث يحمد الله على فضله وهدايته، ويمجّده على نعمه وآلائه، ويكون العبد المعترف أمام ربّه بذنوبه، المستغفر له منها، التائب عنها، الذي يعود إلى ربّه معاهداً إياه أن يحافظ على عبوديته له وطاعته كما ينبغي أن تكون الطاعة. الصوم فرصة عبادية أساسيّة، تمثّل منطلقاً مهمّاً كي يعيد الإنسان التفكير في حساباته وأوضاعه، ويعمل على تغييرها مع ما ينسجم مع إرادة الله تعالى.

إنّ تربية نفوسنا وأولادنا على الارتباط بالله، والاستفادة من أجواء العبادة، لهي مسؤولية كبيرة تدفعنا إلى أن نتحلى بالصبر والوعي، ومحاولة العودة إلى الرّشد والهدى، وتوجيه أنفسنا وأولادنا كما يحبّ الله ويرضى، بما يمكّننا من مواجهة الضّغوطات والإغراءات والتحدّيات الكبيرة والهائلة.

ارسال التعليق

Top