• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

هو كذلك!

محمود محمد حسن عبدي

هو كذلك!
كان يجلس تحت شجرة "قب" مديدة الظل، لا يضيره الذباب الذي تجمع، ليلعق ثمارها الناضجة التي ملأت الأرض تحتها، كان منظره مثيرًا للفضول بحق، فسعيت إليه، لعلني أجد في محادثته، ما أمرر به الوقت، قبل أن أصعد للحافلة التي ستأخذني إلى المدينة، سمعت أحدهم يصيح من خلفي: أيتها الـ"سكارو" احذري!، لم أعر ذلك اهتمامًا فأنا لا أعرف أحدًا في هذه البلدة.  كان واضحًا أن لامبالاة الكهل أبيض الشعر والأسنان، أثمرت حقًا في أن تعامِله تلك الحشرات الطائرة بالمثل، فارتاح مما أعانيه، من قبالاتها اللاسعة البرودة. بدا الكهل في مزاج طيب، فقد كان يدندن قصيدة ما أو كان ينظمها ـ لست أدري ـ، حييته فرد ببشاشة، واستأذنت ان أجلس على صخرة مجاورة نظيفة، فأذن لي بترحاب، و لم تمض برهة حتى أخذ يحادثني، فطلبت منه أن يحكي لي عن بعض تجاربه، ويمنحني من حكمته ـ كعادتنا ـ ، وما مر بحياته من مواقف غريبة، فنظر إلي نظرة شعرت أنه يخترق بها روحي، بعينيه الصافيتين تحت ستار حاجبيه المتهدلين، وابتسم... لم أنبس ببنت شفة، فقد كنت أخشى أن يتوغل أعمق في أحشائي وما تخفيه، من أسرار ومشاعر مذنبة لم تفارقني منذ أن بلغت، فتنحنح بقوة، متداركًا نوبة سعال كان يمكن لها أن تطول.. وقال: أيها الغريب! قد لا أجد لك حكاية مبهجة أحكيها لك اليوم، سكت وكانما قاطعه عارض ما، ووقف فجأة منحنيًا علي بعينين زائغتين، وقد تغيرت نبرته صوته دون أي مقدمات، وأخذ يصرخ في وجهي، وكأنني قتلت أحد أقربائه قائلًا: لكنني أعلمُ أنك تعلمُ أنني أعلمُ، أنك مغفل آخر يريد أن يخرج البعير من البئر، والحقيقة أن "مانديق" كانت ناقة عشراء لا فحلًا... وانخرط في موجة من الضحك الماجن الساعل، وكأنما سمع للتو نكتة منحرفة شديد القذارة، أما أنا فقد أعتراني الذعر، وكأن السماء ستسقط فوق رأسي، فصحت متفلتًا بجنون "ياه .. ياه.. ياه.. ألله" وأطلقت ساقيَّ للريح، وما أن بلغت موقف العربات لاهثًا مرتعدًا، حتى اكتشفت أنني أضعت ساعتي، فسألت بصوت متهدج أحد سكان البلدة عن الساعة، فلم يخبرني سوى أن آخر رزنامة لديهم، قد احترقت في قصف لا يدرون هل كان جويًا او مدفعيًا!!.. رزنامة! تلفتُّ حولي في ذهول وأنا أكاد أن أنتحب وقلت بتوسل : أنا أسأل عن الساعة يا أخواني!.. توقف بعضهم عما كانوا يفعلون ببرود، ونظروا إلي باستغراب، ثم تبسموا وهزوا رؤوسهم في حركة تنم عن الشفقة!. بقيت واقفًا هناك تحت أشعة شمس الظهيرة المدارية، التي شعرت بحرارتها تخترق لحمي وتكوي عظامي، دون أن أجرؤ على الالتفات نحو شجرة الـ"قُب" اللعينة تلك، لكنني كنت أحاول أن أتمالك نفسي، مقطب الحاجبين ملوي الشفتين، كطفل يوشك أن ينفجر بالبكاء، وقد نجحت في ذلك إلى أن أخذت مقعدي، وانطلقت الحافلة لتخرجني من تلك البلدة العجيبة، ثم انفجرت بعويل أصاب السائق بالذهول فتوقف... نظر إليّ من مرآته التي تكشف وجوه الركاب، وسأل راكبًا عن يمينه، هل هذا غريب آخر يريد أن يصلح ما أفسده قوم صالح؟.. قال الراكب ضاحكًا.. هو كذلك! فهز السائق رأسه برتابة وحك قذاله بملل وأدار المحرك من جديد..

وسرَت همهمة لا تخلو من ضحكات، وتعليقات خبيثة حول "سكارو" جديدة، وقعت في شباك الكهل المجنون، والحافلة منطلقة في ذلك الطريق الترابي الخشن، في حين أنني دخلت في حالة سبات، لم أستفق منها، سوى وصبي الحافلة يخبرني، بأن علي النزول، فقد بلغتي وجهتي.

- كاتب من الصومال

ارسال التعليق

Top