• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دليل العقل والعلم في القرآن

أسرة

دليل العقل والعلم في القرآن
 1- احترام العقل والمعرفة: قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى) (طه/ 54). التطبيق الحياتي: الذين يُدركون حقائق الأدلّة والبراهين الإلهية، ويعرفون أبعادها ومراميها، هم أصحاب العقول الراجحة الذين يوظِّفون عقولهم في معرفة الخير الكامن فيها، وتخصيص الآية بالمتفكِّرين احترام لقيمة العقل وقيمة المعرفة. إنّك إذا تأمّلتَ في الظواهر الكونية وقرأتَ كتاب الكون بتدبّر، عرفت ما فيه من قوانين طبيعية كلّها حكمة، وكلها رحمة، وكلّها مصلحة، وكلّها عدل. واهتديت إلى أن عقلك الصغير يمكن أن يقودك إلى العقل المُدبِّر الواسع الكامل الذي يُخطِّط للكون نظامه ومساره وهداه. إنّ احترام القرآن للعقل كأفضل ما خلق الله، يجعل عملك يلتقي بدينك، ويفتح إيمانك على الوعي والتفكير والتحليل، ويعينك على اكتشاف الحقيقة الإلهيّة، وبوحي من هذا الاحترام، يرفض الإسلام العقيدة التقليديّة، ويدعو إلى النظر والتحقيق والبحث والدراسة والتدقيق وصولاً إلى الحقيقة الكُبرى ليس إلى وجود الله فحسب، بل إلى عظمته وإلى حكمته في كل ما خلق، وكل ما أودع من نظم وقوانين. كما أنّ السير المعرفي المتتبِّع لحركة هذه القوانين المنظِّمة للكون يجعلك تردِّد في جلاء الصّفاء العقيدي: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ) (آل عمران/ 191). ولذلك كان العلماء أكثر الناس خشية لله؛ لأنّ حقّانيّة ما خلق الله تتجلّى لهم في خلق الله من خلال تأمّلهم وتفكّرهم.   2- العقل هو الفيصل بين الحقّ والباطل: قال تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 9). التطبيق الحياتي: عدم استواء العلماء بالجهلاء منظورٌ من جهة ما يترتّب على العلم، وما يترتّب على الجهل، فالحياة لا تغتني بالجهل بل تخسر وتتراجع وتهزل وتضمر حتى تنتهي تدريجيّاً، أمّا بالعلم – وشهادات الحياة بحقِّه كثيرة – فتتفتّح الآفاق والأسرار والإبداعات والتنوّعات والرّؤى. وتجسيداً لهذه الحقيقة، قال الإمام علي (ع): "قيمةُ كلّ امرئ ما يُحسنه"، و"الناس أبناءُ ما يُحسنون"(1). بالجهل تنعدم الفواصل، وتسقط المعايير، بل وتنعدم الرّؤية في الزوايا الضيِّقة المظلمة، فلا يعود ثمّة ما يُميِّز بين حق وباطل، بل قد يرى الجاهل الباطل حقّاً، والحق باطلاً. وأمّا بالعلم فالحقّ جليّ واضح، كما هي الشمس، والباطل جلي واضح كما هو الظلام. يقول رسول الله (ص): "إنّما يُدرَكُ الخيرُ كلّه بالعقل، ولا دين لمَن لا عقل له"(2). وأُثِرَ عن الإمام علي (ع) قوله: "كيفيّةُ العقل تدلُّ على كميّة العقل"(3).   3- الترابط بين (السّمع) و(العقل): قال تعالى عن حال أصحاب النار: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك/ 10). التطبيق الحياتي: بين العقل وبين النقل، أو بين المنقول أو المعقول رابطة عضويّة، فالسمع – كما هو البصر – بريدُ العقل، وما يرد على العقل من مسموعات تُعرض عليه ليُصدِّق أو يُكذِّب، أو يرفض أو يقبل، فالسمع إذا أُغلِق، أو تصامم صاحبه، حجب مساحة من النور الذي يستنير به العقل. ولذلك قال تعالى: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ) (يونس/ 42)، وقال عزّ وجلّ: (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (النمل/ 80). جاء عن أمير المؤمنين علي (ع): "وُقِرَ قلبٌ لم تَكُنُ له أذنٌ واعية"(4). ففائدة السمع أن يعي التّذكير وينتفع به، وإلا كان صاحبه ميِّتاً: (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ). إنّ (الأذن الواعية) في قوله تعالى: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (الحاقة/ 12)، هي التي يقف وراءها عقلٌ يُحلِّل، وينتقي، ويُصادق، ويُمضي. كما أنّ في الإعتراف المتأخِّر بالنسبة لِمَن عطّل سمعه فتعطّل عقله إشارة إلى أنّ الترابط بين السمع والعقل وثيق، وأنّ البعض قد (يسمع) لكنّه (لا يعي). قال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنفال/ 23).   4- الدعوة للأخذ بأسباب العلم: قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36). التطبيق الحياتي: توجيه الإنسان للأخذ بأسباب العلم باجتناب ما ليس له به علم، تأكيد على أنّ العلم أساس الحياة، فالإسلام – عقيدةٌ وشريعةٌ وأخلاقٌ – يريد للحياة الفكريّّة والإجتماعية والسياسية والإقتصادية أن تتحرّك على أساس العلم الذي يستمدّ وسائله من حركة الحواس وحركة العقل في مجال المعرفة في واقع الحياة الخاصة والعامّة. ولا يكون (السمعُ) و(البصرُ) و(العقلُ) مسؤولين ما لم يكونوا أو يُشكِّلوا وسائل وأدوات المعرفة الأساسية، وسؤالها هو عن طبيعة النتائج التي اختزنها الإنسان في وعيه، وحرّرها في إثراء واقعه الإنساني والإجتماعي والإبداعي. أي أنّ هذه الأدوات مسؤولة عن إنجاح مشروع الإنسان في الحياة، الخليفة والكادح إلى ربِّه كدحاً فمُلاقيه، والباحث عن الكمال. فليس غريباً أن نسمع رسول الله (ص) مجسِّداً الإسلام الحي، يقول: "العلمُ حياة الإسلام وعماد الدِّين"(5). وأن يكون العلمُ – بحسب توجيهاته الربانية – فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن يمتدّ بامتداد الحياة من المهد إلى اللّحدِ، وأن لا يكون من النوع الذي لا ينفع مَن عَلِمَهُ، ولا يضرّ مَن جَهِلَهُ.   5- البحث عن المعلِّم الصالح: قال تعالى في طلب موسى (ع) من العبد الصالح (الخضر) أن يُعلِّمه ممّا علّمه الله: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (الكهف/ 66). التطبيق الحياتي: أن يستزيد النبي من العلم باتِّباع الذين يملكون ما لا يملكه، ليسترشد بعلمهم في مهمّاته التي كلّفه الله بها، لا يرسم ذلك صورة النبي المتواضع فحسب، بل صورة طلب العلم والإستزادة منه على كلِّ حال. وطلب الصبر كشرط في الرِّفقة التعليمية، شرطٌ لطلب أيّ علم وبلوغ أعلى وأرقى الدرجات فيه، فإذا وثق التلميذ بأستاذه، مكّنه من الإقتداء به، ليرفع من مستواه الفكري والعلمي. وهذا التقديرُ لقيمة العلم والبحث عنه أينما كان يُفسِّره ما رُوي عن النبي (ص): "اطلب العلم ولو كان في الصِّين". فالسّفر الذي لقيَ منه موسى (ع) نصباً وصولاً إلى (مجمع البحرين)، ولقاء أستاذه الخضر، تهون معه المشاق والمصاعب، طالما أنّ النتيجة ارتقاء في المستوى العلمي. والطاعة المطلقة للأستاذ الصالح توصل إلى الغاية (الرُّشد)، (فأكثر التلاميذ نجاحاً وتفوّقاً أكثرهم إخلاصاً لأساتذتهم وللعلم الذي يأخذونه عنهم). وفي النظرة الأوسع لدرس القصّة، فإنّ على المسلم الذي دخل مدرسة الإسلام، أن يتقبّل أحكام الله بالصّبر والتسليم والانقياد التام، فإذا كان موسى (ع) اتّبَعَ الخضرَ (ع) تبعاً لمرتبته العلميّة، واشترط له أن لا يسأله عن شيء، فكيف بالمسلم وهو تلميذ الإسلام والمعلِّم الأكبر الله، وتلميذ المعلِّم الثاني رسول الله؟!   6- الإرتقاء بالمستوى العلمي: قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/ 11). التطبيق الحياتي: إثنان يرتفعان عند الله قيمةً ومقاماً: المؤمنون والعلماء، ولا يعني ذلك الفصل بين فئتين أو طبقتين، بل نفهم منه الملازمة، فالإيمان قرين العلم، والمعلِّم حليف الإيمان، إمّا إيمانٌ أو تديّنٌ باهت وبارد بلا انعكاسات حياتيّة، فهو أشبه بالفرق بين (مزهريّة اصطناعيّة) و(مزهريّة تزهو فيها الزهور النّضِرة). إنّ الرفع هنا اجتماعي وليس مكانيّاً، أي إنّه ارتفاع مكانه، ذلك أنّ قيمة الإيمان مقروناً بالعلم تتجلّى في قيمة العطاء المترتِّب على ذلك، فكلّما ازداد العالم المؤمن عطاءً، زاد ذلك في رتبته النفعيّة لمجتمعه، فهو (الأرفع) لأنّه (الأنفع). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش: (1)          ميزان الحكمة، مادّة علم. (2)          تحف العقول/ 54. (3)          غرر الحِكَم/ 7226. (4)          إرر الحِكَم/ 10106. (5)          كنز العمّال/ 28661.

ارسال التعليق

Top