• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

جوهرية دور الأب

جوهرية دور الأب

في هذا المقال نتكلّم عن دور الأب. وقد استخدمنا في العنوان عبارة "جوهرية دور الأب" وليس "أهمية دور الأب"، نظراً للمجهود الذي يبذله الأب في إعادة الترابط الأسري.

نريد أن نقول اليوم إنّه قد حدث تغير خطي في الخمسين سنة الأخيرة في النظرة إلى دور الأب، ليس في بلادنا العربية فحسب، وإنما في العالم أجمع. ففي الماضي، كانت النظرة إلى الأب هي نظرة المربي، الناصح، مصدر القيم والأخلاق والأمان، المثل الأعلى، من يضبط عقلانية التعامل مع الأولاد بجانب عاطفة الأُم، فتستوي وتتوازن الأمور. حتى حدث هذا التحوّل. ونحن اليوم نريد أن نغير هذا الافتراض الخاطئ الذي تسبب في مصائب كثيرة. فقد تحوّل دور الأب إلى أنّه شخص يقوم بعمل توكيل عام أو تفويض شامل بتربية الأولاد للأُم، على أن يكون هو ممولاً مالياً. فلكل منهما مسؤوليته الخاصة: الأب يسعى على رزق الأولاد، والأُم تقوم بتربيتهم. ومع واقع الحياة الصعبة، قد يضطر الأب إلى العمل ليلاً ونهاراً، وإلى كثرة السفر، وأنا مُدرك لهذا الكلام لأنني أحد الآباء الذي يضطره عمله إلى كثرة السفر. ولكن، اسأل نفسكَ: لماذا أنجبتهم؟ هل يصح هذا التفويض؟

هدف مقال اليوم هو إلغاء هذا التوكيل. فحقيقة الأمر أنّ الأب قام بتوكيل الأُم لتربية الأولاد، والأُم قامت بتوكيل المربية، والمربية مزقت هذا التوكيل، فلم يجد الأولاد من يقوم بتربيتهم، حرام هذا، ليس حراماً من أجل أولادك فقط، وإنما هو حرام من أجل المسلمين أيضاً، ومن أجل بلادنا، ومن أجل أن تكون هناك فائدة مرجوة منهم. فأنت بهذا التوكيل تكون قد قضيت عليهم.

ففي حياتنا اليومية، إذا انحرف ولدٌ ما، تجد أنّ الأب يتشاجر مع الأُم قائلاً: "أين كنت وقتذاك عندما تجرع المخدرات؟ فقد كنت أشقى ليلاً نهاراً لتربي أنت، ولكنك لم تفعلي". ولا تستطيع الأُم الدفاع عن نفسها آنذاك، لأنها مدركة أنّه قد وكلها، وقد قبلت هي هذا التوكيل.

الواقع هو أنّ الأُم لا تستطيع وحدها تربية الأولاد، خاصة في زماننا هذا. القارب يحتاج إلى اثنين يقومان بالتجديف به، أحدهما من جهة اليمين والآخر من جهة الشمال. فمثل هذا الأمر كمثل الأُم تركب قارباً مع ابنها وتقوم بالتجديف به وحدها من جهة اليمين، فهي بالتأكيد لن تصل إلى هدفها، لأنّ القارب بهذا الشكل يدور حول نفسه، فيشعر الولد بالدوار، وعندئذ فإن أول ما يفكر فيه هو كيف يقفز من القارب. ما حدث في الخمسين سنة الماضية كان خطأ، وإن كنا قد شهدناه ونشأنا عليه. والدليل على ذلك التزايد في الانحراف في ظل غياب الأب، فقد خلق الله كلا منا ليؤدي دوره في تربية أولاده.

    أيها الأب، لا أعني أن تترك عملك، ولكن هناك دوراً آخر لك، فيجب عليك أن تُوجد لابنك الوقت وتقوم بتربيته، مادمت باختيارك قد آتيت لهذه الحياة بإنسان جديد يحمل اسمك.

    لك أن تمنح أولادك إما أشياء مادية أو أوقاتاً. فأيهما أغلى وأعمق وأكثر إفادة؟ الأوقات بالتأكيد. فالأوقات لأولادنا تعني وجود المثل الأعلى ومصدر القيم والرجولة. فمن تبعات القوامة أن تعمل صباحاً وترعى أولادك مساءً، فهم أولى بالوقت الذي قد تقضيه مع أصدقائك هنا وهناك، وسوف تجد في هذا الوقت لذة ما بعدها لذة، ويكون من أحلى الأشياء التي تستمتع بها كأب إذا كنت صديقاً لهم. أريد منك قبل أن تدخل بيتك ان تضغط على مفتاح التفاعل، وتذكّر نفسك أن لكلٍّ من زوجتك وأولادك حقاً عليك وأن تنوي محاولة اسعادهم رغم إرهاقك، وتتذكر أنك عندئذ سوف تشعر بالسعادة فمن الآباء من يقول إنّه موجود مع أهل بيته، ولكن يشعر الأبناء أنّه موجود معهم جسداً فقط بلا روح أو تركيز، فهو موجود وليس موجوداً لأن "موجود" مشقة من "الوجد"، أي أنني موجود بك. أحبك، أتفاعل معك.

    وسأحاول هنا أن أحرك في قلوبنا كآباء مسؤوليتنا تجاههم، فهم أولادنا، فهو يحمل اسمي ومن لحمي ودمي. كيف استطعت ببساطة أن تمنح مثل هذا التوكيل؟ كيف استطعت أن تعود إلى بيتك ليلاً وهم نائمون، وأن تخرج نهاراً وهم نائمون، وأن تمر أيام وشهور وسنوات على هذه الحال؟ كيف لا تكون لحظة عيد وفرحة عند عودتك للبيت وركض الأولاد نحوك؟ إن من الآباء الآن من يدخل البيت فيكتئب مَن بداخله، ومَن يخرج من البيت فيفرح من بداخله. وهناك حديث للنبي (ص): "إنّ شر الرجال من إذا دخل بيته اهتمّت زوجته وهرب أولاده، فإذا خرج من بيته، فرحت زوجته وفرح أولاده".

    أيّها الآباء، لاحظوا الأنبياء. سوف تجد أنّ الله يذكر الأبوة مع أغلب الأنبياء في القرآن. انظر إلى إبراهيم وإسماعيل: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ...) (الصافات/ 102)، أي كَبُرَ إسماعيل أمام عيني أبيه ومعه وليس بعيداً عنه، ونظراً إلى صداقتهما وقربهما من بعضهما بعضاً، سوف يساعد إسماعيل أباه. يقول سيدنا إبراهيم: "يا بُني، إنّ الله أمرني أن أبني له بيتاً" (الكعبة)، قال: "يا أبتِ، أطع ربك"، فقال: "يا بُني، وتُعينني؟". من الأبناء الآن من يهرب من العمل مع والده ومساعدته في الشركة نفسها. قال: "وأعينُك". تخيل مَن بنى الكعبة بيت الله الحرام؟ إنّها قصة أب وابنه. فلم تُذكَر الكعبة في القرآن إلا مع ذكرهما معاً: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ...) (البقرة/ 127)، ورد ذكر "إسماعيل" في آخر الأمر كي لا تنسى أن ابنه كان يساعده: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة/ 127). وردت كل الآيات بعد ذلك بصيغة المثنى. فلا تطوف بالبيت إلا وتتذكر قصة أب وابنه ساعد وأحب أحدهما الآخر، وتذكر أيضاً دورك كأب.

يجب أن تقوم بإلغاء التوكيل لأسباب ثلاثة:

أوّلاً: ابنك وابنتك في حاجة إليك، ثانياً: أنت تحرم نفسك من ألذ نعمة في الدنيا، ثالثاً: سوف تُسأل عنهم أمام الله يوم القيامة.

أكثر وقت يحتاج فيه ابنك أو ابنتك إليك هو في مرحلتين: فمنذ وقت الولادة وحتى سن 4 سنوات تكون أُمّه هي مركز حياته، وتمثل أنت له نقطة جانبية كأب. ومن سن 4 سنوات حتى سن 7 سنوات يحتاج إليك الولد والفتاة ولكن احتياج الولد إليك يكون أكثر، ففي تلك المرحلة عند الولد تبدأ أولى المحاولات الفطرية عند الذكر لتشكيل شخصيته كرجل. فهو يريد أن يستشعر أنّه رجل ويريد أن يتعرف إلى عالم الرجولة، فيسعى إلى التخلص من عالم الأنثوية شيئاً فشيئاً، ويبتعد عن أمه، ويسعى نحو عالم الذكورة ويتقرب إلى أبيه، فيستكشف هذا العالم في والده. لذلك، يحتاج إليك ابنك في هذا الوقت. وستجده يقوم بتقليدك بمنتهى الدقة ولفت انتباهك بأي طريقة. فإذا حرمته أنتَ من غريزة رؤية الذكر والأب تبدأ المعاناة بداخله: "هذا الشخص هو الوحيد الذي يستطيع منحي استكشاف هذا العالم، لماذا لا يريد منحي إياه؟". هذه أوّل سن يحتاج ابنك إليك فيها، ولذلك فالمطلقة التي تربي ابنها دون وجود أب تعاني، ويعاني الولد أيضاً، معاناة نفسية شديدة، وكذلك يعاني اليتيم لأنّه بلا أب. ولأنّ النبي (ص) كان يتيماً، فكان في حاجة إلى تحصين شديد. تقول الآية: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (الضحى/ 6). ولذلك كان لدور جد النبي، عبدالمطلب، أهمية كبيرة، حيث إنه كان يأخذه لمجالس الرجال في ظل الكعبة، ويضع له رداءه. فمثل هذا القرب قد منح النبي شعوراً بوجود رجل كبير في حياته، وعند وفاة جده ظهر عمه أبو طالب.

سن دخول المراهقة هو الوقت الآخر الذي يحتاج إليك أولادك فيه لافتقارهم إلى الأمان والاطمئنان. ولكن هنا تحتاج الفتاة إليك أكثر من الولد لما يحدث في تلك الفترة من اضطرابات نفسية وجسدية ولأنها أضعف، حتى وإن لم تؤدّ عملاً جلياً لها. فوجود الأب فحسب وحضنه وتقبيله لها على جبهتها يكفي. هي في حاجة له في ذلك الوقت. فالقبلة على جبين الفتاة لها شأن عظيم.

وتعال معي نذهب إلى بيت النبوة لنرى كيف كان النبي (ص) يتعامل وهو أب. كان من غير الممكن أن يدخل النبي على ابنته فاطمة إلا وينهض ليقبلها على جبهتها، حتى إنها علمت يوم وفاته بوفاته عندما لم يستطع أن يقبلها لمّا دخلت عليه. انظر إلى النبي مع ابنته، وخاصة الفتيات، لأنّها تبحث عن حضن الأب. فإن لم تجده فسوف تبحث عنه خارج البيت. أنت مسؤول (وهذا ليس عذراً للفتيات). ولكن امنحها العطف والحنان والصداقة والقرب منك. كان النبي لا يخرج من المدينة إلا بعد أن يمر على فاطمة أوّلاً، ولا يعود إلى المدينة إلا ويدخل بيت ابنته أوّلاً.

انظر إلى النبي الأب الذي يلاحظ ابنته ويهتم بها. عندما ذهب إليه علي بن أبي طالب ليخطب يد فاطمة، دخل علي البيت ولم يتكلم، بل ظل ينظر إلى الأرض. فقال له النبي:

ما الذي جاء بك يا علي؟".

فقال: "لا شيء يا رسول الله".

فقال النبي: "لعلك جئت تخطب فاطمة؟".

قال: "نعم يا رسول الله".

قال: "هل معك شيء تتزوج به؟".

قال: "لا يا رسول الله".

قال: "أليس معك درعك الذي حاربت به؟".

قال: "نعم، ولكنه لا يساوي شيئاً يا رسول الله، 400 درهم".

قال: "زَوّجتُك عليه يا علي بشرط أن تُحسن صُحبتها".

انظر إلى النبي الأب يوم الزواج بعد أن أوصلهما إلى بيتهما. يقول لعلي: "لا تُحدث شيئاً حتى آتيك". يقول: "فجلس في ناحية من الدار وجلست فاطمة في ناحية من الدار، فجاء النبي (ص) فقال: "يدك يا علي، يدك يا فاطمة"، فآخذ أيدينا". انظر هنا إلى النبي الأب وكيف يتعامل مع أوّل لحظة لابنته التي يملؤها الحياء، فهو يأخذ أيديهما ويضعهما على بعضهما بعضاً، حتى يزيل رهبة واضطراب اللحظات الأولى ويفعل ذلك بإيمان: "اللّهمّ إن فاطمة ابنتي وأحب الناس إليّ، اللّهمّ إن عليا أخي (انظر كيف يصف زوج ابنته) وأحب الناس إليّ، اللّهمّ بارك لهما وبارك عليهما واجمع بينهما في خير. يا علي، ضع يدك على رأس فاطمة وقل معي: اللّهمّ إني أسألك خيرها وخير ما هي له، وأعوذ بك من شرها وشر ما هي له. يا علي.. يا فاطمة، قوما سوياً فصليا ركعتين"، ثمّ خرج النبي وقال عند الباب: "أستودعكما الله وأستخلفه عليكما".

قاعدة اليوم الأسرية للتآلف الأسري وعودة التربية لبيوتنا وشبابنا وأولادنا هي "جوهرية دور الأب". أيها الأب: لك دور جوهري، فقم بإلغاء التفويض للأُم، فأولادك في احتياج منك إلى أوقات أكثر من احتياجهم منك إلى أموال.

 

* عمرو خالد       

 

ارسال التعليق

Top