57
حياتنا.. كيف نفهمها؟
لجنة التأليف – مؤسسة البلاغ
كان يمكن أن يكون السؤال: الحياة.. كيف نفهمها؟ أو كيف نفهمُ الحياة فهماً مناسباً؟ والاختلاف في الإجابة عن السؤال في الدرجة والسعة والخصوصية وليس في العموم والنوع والمضمون.
فإذا فهمنا الحياة بصورة عامّة، قُدِّر لنا أن نفهمها بصورة خاصّة، ولكننا اخترنا أو فضّلنا السؤال بصيغته النَسَبيّة، أيّ نسبة الحياة إلينا، لنكون أقرب إلى فهمنا لما نحياه نحن، لا ما يحياه الناس عموماً، وإن كانت مشتركاتنا -كبشر- مع سائر الناس كثيرة.
غير أنّ ذلك لا يمنعُ من أن نستشرف الإجابة عن السؤال الكبير: كيف نفهمُ الحياة بصفتها فرصة الوجود الوحيدة على كوكب الأرض؟
إنّنا -كمسلمين- يمكن أن نفهم الحياة من خلال (خالق الحياة).. هو أخبرُ وأقدرُ وأكبرُ مَنْ يجيبنا عن سؤالنا إجابة شافية.
ونحن -كبشرٍ- يمكن أن نتفهّم معنى الحياة من خلال (عقلاء الحياة) وهم سادةُ البشرية في العلم والعمل والأخلاق، ونعني: الأنبياء، والأولياء، والصُّلحاء، والحكماء، والعقلاء والأسوياء.
لكننا سنرجئ بعض الحديث عن ذلك إلى ما بعد إنجاز هذه القراءة المفهومية والحركية لمعنى الحياة، أيّ إنّنا سنعرضُ ما نتوصّلُ إليه من نتائج بحثيّة على مرآة العقل الأكبر (القرآن) لنرى كم هي موافقة أو متطابقة معها، وكم هي درجة الاختلاف والافتراق بينهما: بينَ ما نفهمه من الحياة، وما ينبغي لنا من فهمها، وهذا يعني أنّنا سنضعُ خلاصة الآراء التي تفلسف الحياة بين يدي العقل الكبير ليفرز لنا الصالح منها من غير الصالح.
منهجيةُ القراءة
ستأخذُ هذه القراءة في حساب منهجيتها منحى الإجابة عن عددٍ من الأسئلة والفرضيات، المطروحة في خصوص فهم الحياة وإدراك معانيها، واسْتِلال أفضل الدروس والخلاصات من تجاربها، لتخلُّص إلى كيفية التعامل معها، ومن بين تلك الأسئلة أو الافتراضات:
1- ما هي القواعدُ التي يمكن أن نستند إليها في فهمنا للحياة؟
2- ما هي السُبلُ المتاحة أو الممكنة لفهم الحياة فهماً يقينا سوء التقدير أو الاضطراب في الرؤية، وبالتالي ينجينا من سوء التعامل والتدبير؟
3- ما هي المفاهيم المغلوطة (المُغالية والمُتطرِّفة) في فهم معنى الحياة، وهل يتسنى لنا تجاوزها ما أمكن أو عدم الوقوع فيها قدر المستطاع؟
4- كيف (نظر) العظماء إلى الحياة ونظّروا لها بعد ما خبروها؟
5- مقاربةٌ قرآنيةٌ للمراد من الحياة؟
أوّلاً- من قواعد فهم الحياة:
يمكننا التقاط بعض القواعد الأساسية في فهم الحياة من خلال قراءة تأريخية للحياة، لا بمعنى كيف بدأت، وكيف تدرّجت وتسلسلت، وكيف ستنتهي ويُسْدِلُ الستار عليها، وإنما بما تنطوي عليه من أسرارٍ ومفاتيح استطاع الإنسان -عبر مسيرته الحياتية الطويلة- أنْ يتلمَّسها ويعايشها ويعانيها فرداً ومجموعات، ويدرك مراميها، ومن بين تلك القواعد:
1- قاعدةُ نسبيّة الحياة:
بغضّ النظر عن الإرشادات السَّماوية وتعاليمها بشأن نسبيّة الحياة على الأرض، فإنّ المُعايشَة الحياتية العريقة والمديدة، كاشفة كشفاً لا لبس فيه، عن أنّ (لا مطلقَ) في الحياة إطلاقاً: لا العمرُ بخالدٍ فيها، ولا النعيمُ بكاملٍ مكتمل في طيباتها، ولا الآلامُ كلّها فظائع، ولا السعاداتُ كلّها لذائذ، ولا النجاحاتُ بلا إخفاقات، ولا الإخفاقاتُ والإحباطاتُ نهاية الحياة، ولا الأسودُ كلّه سوادٌ، ولا الأبيضُ كلّه بياضٌ ناصعٌ كالثلج تماماً.
نستطيع أن نُشبِّهَ الحياة بطائرٍ بحريّ جميل معروف اسمه (النورس)، فألوان هذا الطائر ثلاثة: الأبيض، ويشكِّل المساحة اللونية الأكبر، والأسود ويتركّز في باطن الجناحين وعند الذيل فهو مبطّن وذيليّ وهامشيّ، والرماديّ وهو المنطقة الوسطى بينَ الأبيض والأسود ويشغلُ الجناحين. والنورسُ بعد ذلك طائرٌ بحريٌّ، بريٌّ، فضائيٌّ، والحياةُ -لمن يتدبّرها- نورسٌ أو نورسيّةٌ ليست كلّها بياضاً ولا كلّها سواداً ولا كلّها رماديّةً، وهي خليطٌ من هذا وذاك، يقول الشاعر في وصفه لنسبيّة الحياة:
طُبعت على كدرٍ وأنتَ تريدُها صفواً من الأقذارِ والأكدارِ
ومكلّــفُ الأيامِ ضــــدَّ طـباعِهــا متطلّبٌ في الماءِ جذوةَ نـارِ
فالـعـيـشُ نــومٌ والمـنيةُ يـقـظـةٌ والـــمرءُ بـيـنهمـا خيالٌ سارِ
مـا يـزالُ الـمرء فـيـها مـخبـــراً حتّى يُرى خبراً من الأخبارِ
إنّ أيّ قولٍ بمطلقية الحياة يفتقرُ إلى الدليل والإثبات غير المتوفر حتى اللحظة، ولا يتوافقُ مع تجارب الحياة الطويلة في شتّى مرافقها، بل يصطدم بالعديد من المحدِّدات، والمقيِّداتِ، والعقبات، والمضيِّقات، والمكدِّرات، والمنكِّدات، والمنغصات التي لا تحصى!
الحياةُ إذاً ليست فضاءً مفتوحاً على المطلق الأرضيّ، وإن كانت مفتوحةً على المطلق السماويّ أو العلويّ.. هي دائرة شبه مغلقة.. أو بيت بثلاثة جدران، رابعها مفتوح على الحياة الأوسع، يكفي أن تعرف إنّ نهاية الحياة هي الموتُ[1]، لتعرفَ أنّ الحياة نسبيّةٌ ولا دليلَ على إطلاقها إطلاقاً.
2- آنية ومؤقتية الحياة:
الحياةُ -كما سبقت الإشارة- ليست خالدة.. هي (ساعة) و(ساحة) أيّ مدى زمني معيّن، ومضمار عمل محدد، أو ميدان سباق وتنافس.. هي الحياةُ الدنيا وليست العليا.. هي (الممر) وليست المستقر، فلا ثباتَ في الحال ولا كمالَ في المعنى.
نعم، الحياةُ ليست سائبةٌ، وإنما محدّدة بنهاية محدودة. والباحثون عن الخلود في الحياة، إمّا لا يعرفونها حقيقة المعرفة، وإمّا واهمون حالمون يخدعون أنفسهم وقريباً ما ينبلجُ فجر الحقيقة، فطالما أنّ هذي القبور تملأ الأرض من عهد عادٍ، كما يقول ابن الروميّ، وقبل عادٍ، منذ أنّ قبر (قابيل) أخاه (هابيل) والحياة تهتفُ بأبنائها.. أنتم على ظهري كركّاب طائرة سرعان ما تنزلون من متنها لتحطّوا رحالكم في باطن الأرض -كمحطة ترانزيت تنتقلون بعدها إلى مقرّكم الدائم- وليس في ذلك استثناء أبداً.
إنّنا جميعاً (عابرو سبيلٍ)!!
3- الحياةُ مزرعة:
يمكن أن تكون الحياة مزرعة بأحد المعاني التالية:
أ) مزرعةٌ مهملة متروكة بلا عناية ولا اهتمام، تكثرُ فيها الأشواك والطحالب والطفيليات والأمراض والنباتات الضارة.. صفراء.. هزيلة.. خاوية.. تبعثُ على الأسى والأسف.
ب) مزرعةٌ مزدهرة، نضِرة، مثمرة، خَضِرة.. ظلالها وارفة كثيفة، وأشجارها مهرعة عامرة، العنايةُ بها دائمة متواصلة، فهي تؤتي أكلّها كلّ حين بإذن ربّها، يقول الشاعر في المقارنة بين المزرعتين:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التقصير في زمن البذر!!
وهذا هو معنى (التغابن) كاسم من أسماء القيامة.. لأنّ مَنْ جدّ وَجَد، ومَنْ زرع حصد، ومَنْ لم يفعل نَدِم وافتقد، ومَنْ استثمر الحياة -وهي أفضلُ رأس مالٍ عرفه الإنسانُ-، استحالت مزرعته من (جُنَينة) إلى (جنّة)، ومَنْ أهملها -عامداً أو مقصِّراً- عاش (الفقر) و(القفر) في نار لا تبقي ولا تذرّ.
هل هناك بين الصنفين صنف ثالث؟ نعم، هم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، فعسى أن يتوب اللهُ عليهم. يصفُ الشاعرُ الأصناف الثلاثة بقوله:
ثلاثةٌ في الناس ميّزتهم أحوالُهم مكشوفةٌ ظاهرة
فواحـدٌ دنـياهُ مقبوضةٌ تـــتبعهــا آخــــرةٌ فــاخــرة
وواحــــدٌ دنـــياهُ محمودةٌ ليس له مـن بعدها آخرة
وواحــــدٌ فــــاز بكلّتيهما قد جمع الدنيا مع الآخـرة!
4- الحياةُ متجر كبير:
يعرف التجّارُ قبل غيرهم أنّ السوق لا تحابي ولا تجامل أحداً، فهي قائمةٌ ونشطةٌ بنشاط أربابها وأصحابها والساعين لإدامة حركتها، وانّ خير التجّار وأكثرهم ربحاً هم الذين يلتزمون بأُصول التعامل في السوق، ويحرصون على اكتساب سمعة طيبة تتيحُ لهم الحظوة عند زملائهم من رفاق السوق وعند عملائهم وزبائنهم.
الحياةُ يمكن أن تكون متجراً كبيراً لا تكادُ حركة البيع والشراء تتوقفُ فيه لحظة: (البائع) فيها الإنسان نفسه، و(المشتري) هو الله تبارك وتعالى، و(البضاعة) أو الصنعة أو (التجارة) هي الأعمال الصالحة التي يقومُ بها الإنسانُ لكسب رضا صاحب السوق، المهيمن عليها، والمتصرّف بأحوالها وفق نوايا وأهداف وأساليب تعامل، ومقاصد تجّارها.
هي تجارةٌ من نوع خاص وفريد جدّاً، (المشتري) فيها هو (المانح) وهو (القابض) وهو (المكافئ).. والبائعُ فيها رابحٌ في جميع صفقاته، فإذا باع بصدق وتعامل بإخلاص، فهو لن يخسر شيئاً على الإطلاق، فالتجارةُ مع الله رابحةٌ.. ورابحةٌ دائماً، والإيمانُ به والعملُ في سبيله يحقق من درجات الربح أكملها وأعلاها.. هات لي أيّة خسارة في الحياة الدنيا بالنسبة للعاملين في سوق الله، لأقول لك إنّها في حسابات التجارة الربّانية والصفقات الإلهيّة رابحة وإن بدت في أعين الناسِ خسارة.. هي رابحةٌ ربحاً غير مرئيّ ولا منظور، أو إنّه غير قابل للحساب عن طريق الرياضيات.
المتاجرون مع الله يتحدّثون دائماً عن شيء اسمه الألطاف الخفيّة، فإذا خسروا شيئاً، أو فقدوا شيئاً، التمسوا تعويضه أو (ربحه) في غيره.. وإليك بعض الأمثلة:
هم يجدون -مثلاً- في الخسائر الآنية ربحاً مستقبلياً أكبر.. أو قرباً إلهياً أكبر يتيحُ لهم أن يلجأوا إلى ملاذهم، ولذلك ترى أنّ شعارهم هو "الخيرُ في ما وقع" حتى وإن بدا هذا الواقع للوهلة الأولى ليس خيراً، بل شرّاً ظاهراً، إلّا أنّهم ينظرون إلى (النصر المعنوي) إن فاتهم (النصر المادّي)، ويتطلعون نحو الأفضل إن خسروا ما بين أيديهم من صفقات مادّية.
ذات مرّة احترقت معاملُ مخترع الكهرباء (أديسون) وكان قد تقدّم به العمر.. كان يمكن أن يقول وهو واقفٌ على أطلال معامله التي استحالت رماداً: لم يعد في العمر فسحة أو متسع لإعادة البناء من جديد.. أو يقول: لقد احترقت آمالي كلّها جميعاً.. أو يقول: يكفيني ما أنجزت وحققت.. لم يقل ذلك، بل قال: الحمدُ لله.. سيكون بإمكاننا أن نعيد البناء من جديد وبلا أخطاء هذه المرّة!!
تجّارُ السوق الإلهيّة لا يختنقون بسموم الحياة، ما دامت تهبُّ عليهم نسائمُ الأمل والرجاء على طول طريق الحياة.. هي (سيولتهم) إن فقدوا السيولة!!
5- هادفيةُ الحياة:
سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه، فإنّ حياة ثرية بهذه الرحابة والكثافة والتلاوين والتنوُّعات وتعاقب الأجيال والحضارات، لا يمكن أن تكون (عابثة) أو (عبثية) أو مخلوقة (سدى).. العبثيات والعشوائيات والفوضويات لا تصدرُ إلّا عن ثلاثة: (المجنون) لأنّه غيّب أو غاب عنه عقله لعلّةٍ ما، فلا يملكُ المعيار في معرفة الهدف.. و(الطفل) لأنّ مداركه لا تزل غضّة لم تقوَ على إدراك الهدف.. و(الجاهل) الذي قد يكون عقله حاضراً، وعوده قويّاً، لكنه إمّا أن يكون مفتقداً ومفتقراً للعلم، أو أن يكون معتقداً اعتقادات خاطئة (تختلط عليه الأمور فلا يعرفُ الحقّ والحقيقة)، أو انّه يفعلُ بعكس ما ينبغي أن يكون أو يجب الفعل.. إنّه جَمَّد عقلَه.. وشَلَّ تجربته، فهو أسوأ الثلاثة.
الجامعُ بين هؤلاء الثلاثة صفة مهمّة وهي (غياب) العقل أو (تغييبه)، وليس ثمة عاقل يحترمُ عقله يرى أنّ الحياة التي خبرها، هي تعدادُ أيّام، أو نبتة أرضية نبتت لوحدها، أو مجرد فسحة يقضي وطره منها أو فيها، ثمّ لا تلبثُ أن تتحوّل عنده إلى (عقب سيجارة) يدعسها بعد الانتهاء منها بقدمه، أو يرمي بها في مطفأة السجائر!
ما من مخلوق يدبُّ على هذه الأرض إلّا ويعلمُ، بما ألهمه الله من سلامة فطرة، إنّه مخلوق لغاية، ومبعوث إلى هذه الأرض لهدف، وهو العملُ بما وظّفه الله تعالى له أو كلّفه به من مهمّات أرضيّة.
الشجرةُ -عند النضج والاكتمال- تهبُّ ثمارها (أولادها) (فلذّات كبدها) وهي جدُّ سعيدة في أمرين: الهبة وانجاب غيرهم لإسعاد الآخرين.. ليس هناك مَنْ يستطيعُ أن يقنع شجرة مثمرة -نشأت ونمت وترعرعت وسخت بعطائها- أن تَكُفّ عن العطاء أو تُقلِع عن هداياها المجانيّة.. ولن يخالجها مرّة شعور بأنّها مخدوعة، وإلى متى تبقى تقدّمُ هداياها بالمجان؟
الحيوانُ الذي يجعلُ من ظهره مركباً ينقلُ الإنسان وأثقاله من مكان إلى مكان لا يعترض على تسخيره لمهمّة صعبة، وعلى خدمة يسديها لمخلوق آخر من غير جنسه.. إنّه سعيدٌ بأدائها لأنّه خُلِق لها وهو فخورٌ لما خُلِق له، ولما يقومُ به من حسن أداء.
حوتُ يونس 7 كأيّ حوتٍ آخر في عالم البحار والمحيطات يجيدُ البلع، ويُحسنُ الهضم ويتمثلُ الطعام، لكنه لم يفعلها مع يونس 7.. لماذا؟ لأنّه امتثل لأمر الله تعالى الذي قال له: "لا تفعل"، فقال: "لبيك أللّهمّ لبيك"!! إنّه كالنار التي تحوّلت برداً وسلاماً على إبراهيم 7 يمكن أن يكون -بإشارة من خالقه- ملجأً وملاذاً يحمي الذي في بطنه.. مَنْ هدى الحوت أن لا تبلع يونس؟! ومَنْ علّم النار أن لا تلتهم إبراهيم؟!
تلك الشمس التي تلتمعُ كالذهب في الأعالي.. وذلك جارها السماويّ الفضيّ (القمر).. لو كانا مجرد كرتين أو كتلتين حجريتين تدوران في الفضاء بلا هدفٍ مرسوم، وحركة منتظمة، ووظيفة مقدّرة.. هل كنّا نرى الأوّل في الصباح والثاني في الليل يوزعان هداياهما الذهبية والفضية على الجميع وبلا استثناء؟!
حتى الذئب لا يلام على ذئبيته، وحتى الكلب لا يُنتقد على كلبيته، وحتى الأفعى لا تُحاسب على ابتلاعها وبث سمومها.. نعم، إنّها مؤذية لكن ذلك بعض أدوارها.. إنّها مسخّرةٌ لما خلقت له.. ولذلك فهي (هادفةٌ) وإن لم تعِ هدفها.
الإنسانُ هو المخلوق الهادف الوحيد الذي يعي هدفه ويسعى نحوه، ويرتبُ جميع خطواته وحركاته باتجاهه، لأنّه المخلوقُ العاقل الوحيد.. هو هادفٌ لأنّه عاقل.
كيف ينسجمُ هذا وعشرات بل مئات الأمثلة المضادة والمناقضة من حياة اللاهين والعابثين واللاأدريين والسادرين في غيِّهم، والحاسبين أنفسهم طلعاً بريّاً أو نباتاً أرضياً لا يلبث أن يتحوّل إلى هشيمٍ تذروه الرياح.
أيّما إنسان ركن عقله جانباً.. جمّده أو ألغاه أو عطّله.. لا يمكن أن يتصرّف إلّا بوحيّ من هواه أو بإرادة الآخرين.. والهوى أعمى لا يرى إلّا (أناه) التي لا تستطيع أن ترى نفسها بمرآة لتعرف عيوبها ونقائصها من أجل أن تصلحها.. والتبعية للآخرين مصادرة للعقل واستقلاليته.
طالع هذه البيانات الربّانية:
- ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون/ 115).
- ﴿أَيَحْسَبُ الإنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ (القيامة/ 36).
- ﴿رَبُّنا الَّذِي أَعْطى كلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ (طه/ 50).
- ﴿رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلا سُبْحانَكَ﴾ (آل عمران/ 191).
- ﴿كلّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾[2] (النور/ 41).
6- الحياةُ ساحة سباق واسعة:
لو لم يكن في نهاية الفصل الدراسيّ اختبار للقدرات والمواهب والإبداعات، ولم يكن هناك رصد للتحصيل السنويّ لكلّ تلميذ، ولم تكن هناك (مكافأة) بالانتقال من درجة أو مستوى إلى درجة أو مستوى أعلى.. هل تنافس التلاميذ على أيّهم يحصل على أعلى الدرجات وأفضل المكافآت؟!
ولو كانت السوقُ التجاريةُ تتعاطى مع التجّار بالتساوي، تعطي النشيط والكسول على السويّة أو السواء، هل شمّر التجّار الماهرون عن سواعد الجدّ في السفر والترحال، وعقد الصفقات، وتحسين الظروف والأداء في الإنتاج والتسويق، وفتح الفروع لمحالهم التجارية حتى تتسع رقعة العمل وبالتالي رقعة الربح والاستفادة؟!
لا نريدُ أن نستطرد في الأمثلة كثيراً، فهي أكثر من وافية وكافية، ولكن لنقف عند مثل رياضي قريب، وهو مثل العدّائين في انطلاقهم نحو الهدف، أما رأيت أنّ فيهم الأوّل الذي يتقدّمهم، وبعده الأوائل في تسلسلهم المعروف، ثمّ بعدهم الذين يواصلون الشوط على الرغم من إنّ غيرهم سبقهم فيه واقترب من خط النهاية؟
الكلُّ متّجهون صوب الهدف الواحد، والكلُّ يسابقُ الآخر في بلوغه، وليس في السباقات سباق الجميع فيه أوائل، أو الكلُّ فيه فائزون، ولكن حتى الذي هو قبل الأخير هو سابقٌ على مَنْ خلفه، وحتى هذا الخلف يسابق الذي أمامه علّه يسبقه..
الحياةُ (سباق ماراثوني) خط البداية أو نقطة الانطلاق فيه واحدة.. ونقطة الهدف فيه واحدة، لكنّ مسافة ما بين النقطتين أو الخطين هي التي يقع فيها التباين والاختلاف والتفاوت في درجات السباق واللحاق.
تأمّل في هذه الإشارات القرآنية:
- ﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ﴾ (الصافّات/ 61).
- ﴿وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ﴾ (المطففين/ 26).
- ﴿أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ﴾ (المؤمنون/ 61).
- ﴿وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ﴾ (الواقعة/ 10).
وقال تعالى على لسان موسى 7: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾ (طه/ 84).
وقال سبحانه على لسان إخوة يوسف 7: ﴿إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ﴾ (يوسف/ 17).
7- الحياةُ مدرسة وكتاب مفتوح:
من سخاء الحياة، وهي لا تبخلُ على المتعلمين من دروسها بشيءٍ، إنّها تضع كتابها المفتوح بين يدي كلّ مَنْ يريد أن يستفيد من تجاربها، فهي مدرسةٌ تعلّمُ حتى (الأُميين)[3]، وهي أغنى المدارس على الإطلاق، وهي المدرسة المجانية التي لا تحتاجُ إلى اشتراكات أو أموال للتسجيل فيها.. إنّها مدرسةٌ مفتوحةٌ على الدوام لا تغلِقُ أبوابها، لا في الصيف ولا في الشتاء، ولا في أيّ وقتٍ، ليس فيها عطلٌ أو إجازاتٌ.. الحياةُ مدرسة المستفيد، المستزيد، المثابر العنيد.
مدرسة لا تحدّد بعددٍ معيّنٍ من سنيّ الدراسة.. هي مدرسةُ العمر كلّه.. لا يستغني عنها المتعلّم فيها ومنها في أيّة مرحلة من مراحل عمره.. فمادمت في الحياة، فأنت تلميذها الذي يجد له مقعداً دائماً.. والمتخرِّج الوحيد منها الذي يغادرها فلا يعودُ بوسعه اغتنام فرصها التعليمية المتكاثرة المتزايدة الممنوحة للجميع.
أمّا كتاب الحياة فمؤلفوه كلّ البشر من لدن أبينا آدم وحتى آخر آدميّ يدبُّ على وجه الأرض.. بعضهم وسّع في آفاق الأرض عمّرها وأغناها بالعلم والقيم والفضائل والإنجازات.. وبعضهم لطّخَ وجهَها بـ(السخامِ) وبـ(الدماءِ) ولوّثها بالجريمة.
أين أنت في هذا الكتاب؟
في أيّة صفحة منه؟
أين بصمتك فيه؟
هل ستكون صفحة مشرقة؟ أم صفحة سوداء؟
المهم، مازال لديك الوقت لتكون علامة فارقة في كتاب الحياة غير المحجور على أحد.
8- الحياةُ معهد دراسيّ لاكتساب الهويّة:
كما في سائر المعاهد الدراسية يُمنَحُ الطالب المنتسب إليها هويتين، الأوّلى: عند انضمامه إليها للاعتراف به على أنّه ابن هذا المعهد وأحد أفراده أو أعضائه، والثانية: في نهاية تخرُّجه للدلالة على أنّه حاز شهادة التخرُّج أو التأهيل.
الهويتان مطلوبتان: هوية التعريف، وهُويّة التخرُّج.. وفي مدرسة الحياة يتلقى الطفلُ الوليدُ هوية انتسابه إلى الجنس البشري كـ(إنسانٍ)، ولكنّ سعيه إلى الخروج والتخرُّج يشكِّلُ حركته الحثيثة لاكتساب (هوية الإنسان- الإنسان) أيّ هُويّته الإنسانية التي تنقلُه من (الشخص) إلى (الشخصية) فلا يتميزُ على باقي المخلوقات بميزات النطق واستقامة القامة، والضحك والبكاء، والتخيُّل والاحتلام (رؤية المنامات) والقراءة والكتابة والتعقُّل والرقيّ فقط، وإنما يتفوّق فيها بمواهبه الإنسانية التي ترتفع به من مجرد (حيوان أو كائن بشري) إلى (كائن إلهيّ ربّاني).
لذلك كان الأجملُ فينا هو الأقدر على بلورة إنسانيته وصقلها وإبرازُ جوهرها وأنبلُ ما فيها.. وكلّما كان الإنسان قادراً على إحراز معالي المروءة ومراقي السماحة والإحسان، ودرجات العلم والتواضع، أمكنه أن يَسمُوَ من إنسانه (معدنه الخام) إلى إنسانيته (الكمال المتنامي).
هويةُ الإنسان إذاً قدرته على أن يتعاطى -من خلالِ إنسانيته- مع الإنسان الآخر، أو مع الطبيعة، أو مع خالقه، سواء كان الآخرُ أباً أو أخاً أو أُمّاً أو زوجاً أو أختاً أو جاراً أو زميلاً أو مديراً أو موظفاً، بما يجعلُ حياتهم أسعد وأرحب، وبما يقلِّلُ ويقلِّصُ من درجات التوتر والتشنج والإغاضة والتعالي والعصبية والإساءة وتعكير الأجواء.
أعد قراءة الآيات التالية على ضوء المفهوم المتقدِّم:
- ﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ﴾ (الحجرات/ 13).
- ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الزُّمر/ 9).
- ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكلّا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى﴾ (الحديد/ 10).
بل راجع كلَّ آيات عدم الاستواء والتسوية لترى فوارق السعي بين إنسانية متحرِّكة بقدرٍ وإنسانيّة سبّاقة إلى الخير والعمل الصالح، وهذا ما نستوحيه أيضاً من قول النبيّ 6: «خيرُ النّاسِ مَنْ نفعَ النّاسَ»[4]، «خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه، وأنَا خَيرُكم لأهْلي»[5]!
9- الحياةُ ملتقى إنساني هائل لتبادل المنافع والثقافات:
ربّما تختلفُ أماكن سكنانا.. وتتفاوتُ ألسنتنا (لغاتنا ولهجاتنا) وسحناتنا، وتتباينُ علومنا وثقافاتنا وحضاراتنا ودياناتنا ومذاهبنا وطوائفنا وطرائقنا ومدارسنا.. وكلّ ذلك رحمة وسعة وبركة.
المهمّ.. (اختلافنا) يجب أن لا يؤدّي إلى (خلافنا) وإلّا فإن أدّى إلى ذلك جرّ إلى (تخلّفنا)!
الحياةُ بستانٌ تتعدّدُ فيه الأشجار والثمار والطيور والزهور.. وهي ليست حياةُ إذا كانت شكلاً واحداً مكرراً منسوخاً مملّاً ومقرفاً وباعثاً على السأم والتخلُّص منها بأيّ طريقة.
من هنا، كانت الدعوة إلى (التعارف) و(التآلف) و(التكاتف) و(التثاقف) و(التناصف) و(التحالف) بين بني البشر -بسبب تعدّد ألوانهم وثقافاتهم- دعوة تبادل منافع ومصالح وعلوم وعلاقات مشتركة.
عَمِّق النظر في هذه الدلالات البالغة الإيحاء:
- ﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا﴾ (الحجرات/ 13).
- ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها﴾ (النساء/ 97).
- ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكلّوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك/ 15).
- ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الرُّوم/ 9).
وفي الحديث المروي عن النّبيّ 6: «اطلبوا العلم ولو في الصين»[6].
ثانياً - سُبلُ فهم الحياة:
كانت تلك بعض القواعد التي نستند إليها في فهمنا للحياة بصفة عامّة، لكن السبل الكفيلة بالوصول إلى قناعات مبتنية على تلك القواعد ومستمدة منها، تحتاج إلى إعمال نظر ذاتي موصول للإجابة عن سؤال مهم: لماذا أنا في الحياة وعلى قيدها؟ هل أنا (مسافرٌ عابر) أم (مستقرٌ مقيم)؟
على ضوء الإجابة المستوعبة لمعنى السؤال، يتحدد فهمي للحياة.. فإذا عرفت أنني عابرُ سبيل، فهذا يتطلّب منّي أن أعرف جملة أُمور: بداية الطريق، خارطة الطريق، مستلزمات السفر، رفقة السفر، هدف السفر، ماذا يتعيّن عليّ عمله في سفري أو مدة إقامتي على الأرض؟!
أمّا إذا عرفت أنني سوف لن أرحل إلى مكان آخر، وهذه الحياة التي أنا فيها هي (محطتي) الأُولى والأخيرة، وإنّها (محطّ) آمالي واهتماماتي وتطلعاتي وغاية مَطْلَبي ومناي، فذلك يعني أنّني أعملُ على النحو الدائم في إطار حياة غير دائمة (تذكّر أنّ نهاية الحياة الدنيا الموتُ).. أو أنّني أعملُ في فضاء مفتوح وفي الحقيقة ما هو إلّا قناة عبور إلى حياة مفتوحة الفضاءات.. هذا الوهم أو التوهُّم أنّ كلَّ بَيضيّ يجبُ أن يوضع في سلّة الحياة، سيكلِّفني غالياً، لأنّ ارتطاما بسيطاً قد يُحطِّم ويُهشِّم ويُكسِّر كلَّ البيض.. فماذا يبقى لي في السلّة التي تصوّرت أنّها الحياة؟ لا يبقى إلّا الندم، والندم حتى لو ملأ السلال فإنّه كـ (الغلال)!!
ليس هناك خيارٌ ثالث: فإمّا البقاء في الدنيا ولا بقاءَ، أو رحيل إلى عالم البقاء في الآخرة دار الخلود.. وسواء استوحينا ذلك من كتابٍ سماويّ أو لم نستوحه، فإنّنا رهائن هذين الخيارين، لا نشذُّ عن أحدهما.
انطلاقاً من ذلك، فإنّ سُبُل فهم الحياة، عامّة وخاصّة، وسنركِّزُ الحديث على العام منها.. أمّا الخاصّ، فالإنسان وما يفهمُهُ من الحياة سواء من خلال تأمُّلاته الذاتية، أو تجاربه الشخصية، أو قراءاته التأريخية والميدانية، أو عبر معاناته الخاصة، ومقدار ما استلهم من تجارب الآخرين واستوعبه منها.
هذه بعض أساليب فهم الحياة فهماً عامّاً:
1- قراءتها قراءة واعية متدبّرة:
لا المبالغةُ في فهم الحياة تعطيني مرادي من التصوُّر الصحيح عنها، ولا ازدراؤها واحتقارها وتحقيرها وتصغير شأنها ينفعني أو يساعدني على فهمها فهماً سليماً، وعليه كلّما نظرت إلى الحياة بدون (مكبِّرات) ولا (مصغِّرات) أدركت معناها المراد.
دعنا نتبسّط في القول بشيءٍ من التوضيح:
إذا كانت الحياة -عند مَنْ أطال الإقامة وعَمَّر فيها طويلاً- أشبه ببابين يدخل الداخل من أحدهما ويخرجُ من الآخر[7]، فهذا يعني أنّ مسافة مابين البابين هي الحياة.
بعضُ الناس يدخلُ الدنيا وهي بحجم معيّن ويخرجُ منها وقد أضاف إلى سعتها سعة، وإلى آفاقها أُفقاً جديداً، وإلى أبعادها بُعداً آخر، وإلى بصمات الآخرين بصمة مميزة، كانت العربُ تقول:
قلْ كلمةً وامضِ زدْ سعةً في الأرضِ
ويدخلُ بعضُهم الدنيا ويخرجُ منها بسرعة خاطفة حتى لا تكد تراه أو تعثر في دروب الحياة على خطاه.. لم يترك عيناً ولا أثر!
البعضُ زادَ في فساد الحياة وخرابها فساداً وخراباً وتلويثاً ونتانةً وقبحاً، والبعضُ أضفى على الحياة صلاحاً وإعماراً وبناءً وتنقيةً وازدهاراً، أيّهما شئت فاختر، فأنتَ بين خيارين الحاكم فيهما عقلك وإرادتك.
هل تعرف أنّ الأرضَ إذا فارقها الصالح بكته، وحزنت عليه واستشعرت فقده، وإذا غادرها الفاسد المفسد المسيئ فرحت لذلك فرحاً شديداً لأنّها تخلّصت من مخرِّب لم يتركها على حالها ولم يحسن إليها، وإنّما راكم الخراب وزاده أضعافاً.
أن يكون أحدنا رقماً هامشياً يضاف إلى طوابير الأحياء، ليس في ذلك فخرٌ، أيّ فخرٍ، الفخرُ كلُّ الفخر أن أكون (إضافة نوعية) للحياة.. هل ذلك الفضل أو الفضيلة ممكن؟ تلك إمكانية متاحة للجميع مهما صَغُرت قدراتهم العطائية.
سأل أحدُهم أحدَ الفتيان بعد موت أبيه: كم ترك لكَ أبوك؟!
فقال له: لا تسلني كم ترك لي، بل سلني ماذا ترك لي؟
قال: وماذا ترك لكَ؟
قال: ترك لي مروءتَه وسخاءَه، وسماحتَه ونبلَه وشجاعتَه، فلقد فقدت شخصه ولم أفقد شخصيته!!
2- الاتّعاظ بتجاربها:
سبقت الإشارة إلى أنّ الحياةَ مدرسةٌ مفتوحة الأبواب تُقدِّمُ تجاربها أو مواعظها بالمجان، ولذلك فإنّ التعلُّمَ فيها ذاتي، اكتسابي لا تحدّه حدود، من ذلك نستنتجُ:
- تجاربي الذاتية -الناجحة والفاشلة- رصيد حياتي ضخم.
- تجارب الآخرين -القريبة والبعيدة- منجم ومقلع هائل.
- تجارب الأُمم -القادة والشعوب- العلماء والجهلاء -المصلحون والمفسدون- خزين معرفي لا ينضب، وإرث إنساني لا ينفد.
دقِّق النظر في الإرشادات الحضارية الراقية التالية:
- ﴿لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ (يوسف/ 111).
- ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ (الرُّوم/ 42).
- ﴿وَتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ (آل عمران/ 140).
- ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ﴾ (الفجر/ 6).
- ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ﴾ (الفيل/ 1).
- ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ (يوسف/ 3).
3- قراءةُ التأريخِ قراءةٌ واعيةٌ مستوعبةٌ ناقدةٌ:
تأريخُ الأُمم -كما هو تأريخ الأفراد وتراجمهم وسيرهم الذاتية- مادّة غنيّة للدرس وفهم الحياة.. إنّه ليس مجرّدُ أحداثٍ تُسرد وقصص تُروى، ولا تعاقب زمني لا معنى له.
من خلال قراءة التأريخ بذهنية النقد والاستيعاب، يمكن أن نحصل على المغانم الفكرية والمعرفية والحركية التالية:
أ) إنّك إذا قرأت التاريخ واستخرجت أسرارَه، وربطت حوادثَه، وتعمّقت في فهم رموزه وشخصياته، تكون قد أضفت أعماراً إلى عمرك وأسفاراً (كتباً) إلى سفر حياتك، بل تكون كأنّما عشت في ذلك العصر وعاصرت أهلَهُ وعايشت أحداثَهُ وقضاياه وهمومَهُ واهتماماتهُ.
هذا هو الإمام عليّ 7 مثلاً قد قرأَ التأريخَ قراءةً واعيةً مستشرفةً شاملةً مستوفيةً، فترك لنا في بعض آثاره فائدة الغوص في بحر التأريخ لاستخراج لآلئه وكنوزه.. يقول 7 في وصيته الشهيرة لولده الإمام الحسن 7: «أي بني! وإنِّي وإن لم أكن عمّرت عُمر مَنْ كان قبلي فقد نظرْتُ في أعمالِهم وفكّرْتُ في أخبارِهم وسرْتُ في آثاِرهم حتى عدْتُ كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليَّ من أُمورِهم قد عمّرت معَ أوّلِهم إلى آخرِهم، فعرفْتُ صفو ذلك من كدرِهِ، ونفعِهِ من ضررِهِ»!!
ب) قراءةُ التأريخ تكشفُ لنا -بالأدلة الدامغة- أنّه فعلاً يعيدُ نفسه لا بأشخاصه الذين طويت صفحاتهم، ولكن بأحداثه التي تتشابه في مضامينها ومداليلها ودروسها، وإن اختلفت في أزمنة وقوعها.. ومَنْ استطاع أو نجح في فكِّ رموز التأريخ وأسراره ينجح في التعاطي مع واقعه، لأنّ فيه دروساً للتعامل الإنساني غنية جدّاً على الرغم من تطور الحياة بأشكالها وطقوسها وآليات التعاطي معها، ولذلك قد أفلح مَنْ استلّ من دروس التأريخ سنناً وقوانين أسماها بالسنن التأريخية[8] التي تمتاز بإطرادها وسريانها على جميع الأُمم والشعوب في غابر الزمان وحاضره.
ج) لبعضِ أحداث التأريخ انعكاسات أو ارتدادات على واقع الناس وراهنهم، وهي أحداثٌ وقعت في فترةٍ زمنيةٍ لها ظروفها وملابساتها وشروطها الخاصة، بحيث يمكن أن نستخلص منها الدروس والعِبَر، لكن ليس من الصحيح ولا من المنطقيّ الدوران في حلقاتها المفرغة، أو التسمُّر عندها، أو بعث عظامها من القبور.
يقول الحقّ سبحانه: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة/ 134).
إنّه لمن الإجحاف الفاحش بحقِّ الواقع البريء أن نرمي بأكداس وأثقال ونفايات التأريخ في طريقه لتزاحمِ موكبه من أن ينطلق أو يمرّ إلى هدفه أو يتناهى إلى مقصده سالماً مُعافى من أوبئة الماضي ونيرانه الحارقة، أو نلوِّث صفاءَ سمائنا بغبارِ السنوات البعيدة.
د) التأريخ في صفحاته -السوداء العجفاء والمظلمة- تذكرة وتحذير وتوعية للقادمين على الأثر من الأجيال التي يرادُّ لها أن تتطلع إلى الأمام، وأن لا تعيد استنساخ تلك الصفحات المريرة والخطيرة، أو زيادة عددها في كتب التأريخ وصفحات الواقع.
والتأريخ أيضاً في صفحاته المشرقة والمطرّزة بأحرف من نور (زاد) و(رصيد) و(إرث) و(مكتبة) و(علم مستفاد).
يقول الحقّ سبحانه مخاطباً نبيه موسى 7: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِكلّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ (إبراهيم/ 5).
4- التصنيفُ الدقيق لأهلها:
من سُبُل فهم الحياة أيضاً أن نضع الناسَ مواضعهم، فلا يستوي عندنا أهلُ العلم وأهلُ الجهل، وأهلُ الصلاح وأهلُ الفساد، وأهلُ العمل وأهلُ البطالة، وأهلُ الإيمان وأهلُ الكفر.
إنّ عمليةَ الفرز بين هذه الأصناف تخدمُ فهمنا للحياة من خلال فهمنا للمتعاطين معها سلباً وإيجاباً، ذلك أنّنا سنختار في أيّ الفريقين أو المعسكرين أو المدرستين نكون.. وعلى مدى دقة اختيارنا يمكن توقّع حاضرنا ومستقبلنا في هذه الحياة وفي الحياة التي تليها.
يمكن لصحبة ما صالحة أن تكون رفقة أبدية في النعيم، ويمكن لأخرى فاسدة أنْ تكون اقتراناً جهنّمياً، ولذلك لا يكفي السؤال عن الرفيق قبل الطريق في السفر الدنيوي فقط، بل في السفر الأخروي أيضاً.. فالمرء مع مَنْ أحبّ، ومَنْ اكتسب أخاً في الله اكتسب بيتاً في الجنّة.
تأمّل في بيانات الحقّ جلّ جلاله:
- ﴿الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ (الزخرف/ 67).
- ﴿يا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا﴾ (الفرقان/ 28).
ويوم يعظ الظالم على يديه يقول:
- ﴿يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا﴾ (الفرقان/ 27).
- ﴿وَالصّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ (النساء/ 36).
والصاحب بالجنب هو الرفيق والصديق والزميل سواء كان دائمياً أو مؤقتاً كرفيق السفر.
الفهمُ المغلوط للحياة:
سوف لن نعرضَ ما نراه فهماً مغلوطاً على معاييرٍ أخرى غير معيار العقل، فإذا كان ثمة عقول ترى غير ما نرى فذلك شأنها وهي تتحمَّلُ مسؤولية فهمها للحياة، كما نتحمّلُ نحن أيضاً مسؤولية فهمنا المتعقِّل لحياتنا.. ذلك أنّنا نُحاسَبُ بقدر ما أوتينا من عقل.
ومن بين المفاهيم الخاطئة أو المغلوطة أو المنظور إليها من زاوية معينة، ما يلي:
1- الحياةُ استهلاكية:
البعضُ يفهمُ الحياة على أنّها فرصةٌ عابرةٌ وعليه اقتناصها والاستفادة منها بالمزيد من التمتع فيها حتى آخر لحظة لأنّه يعتقد أنها الفرصة الوحيدة ﴿إِنْ هِيَ إِلا حَياتُنا الدُّنْيا﴾ (المؤمنون/ 37).
إنّه يريدُ أن يعيش اللحظة بلذّةٍ وشهوةٍ ولا يُفكِّرُ بما بعدها حتى أنّه أحياناً يضرُّ صحته وسلامته النفسية والجسدية لاحقاً لأنّه ابن اللحظة أو ابن اليوم الذي هو فيه، وهدفه هو المتعة لا غير، لذا فهو يكافحُ وقد يقاتلُ الآخرين ليحصل على فرصته التي قد لا تتكرر..
إنّه الفهم السطحي الذي لا يتعمّقُ ولا يتوسّعُ ليعي الحياة على حقيقتها.. فالملذات لم تكن يوماً مستديمة... كلّ شيء سيزول ويفنى، القوّة والجمال والأحوال كلّ ذلك يتبدل، والمال على الرغم من أهميته لكنّه لا ينفعُ دوماً في جَلب السعادة، كما إنّه لا يهبُّ الإنسان الخلود فهو لا يستطيع أن يعيق تقدم الحياة أو أن يدفع عن الإنسان الموت.
وليست الحياةُ فرصةً للأخذ فقط وإنما هي فرصة للعطاء أيضاً، وبقدر ما يعطي الإنسان يُكتَبُ له الخلود... ذلك أنّ «قيمةُ كلّ امرئ ما يحسنه».
إنّ قيمة الإنسان تقدر بقدر ما يُقدِّمه من خير وعلم ونفع للناس، والحياة ليست فرصة سانحة تنتهي بلا معنىً.. والحياة ليست فرصة واحدة وتنتهي وإنما هي فرص متكررة، تتوالى فيها النعم كما تتوالى فيها الإبتلاءات.. نعم، قد تمرُّ فرص العمر التي يستطيع الإنسان فيها أن ينتج ويُعمِّر ويخدم الآخرين.. قد تمرّ ولا تتكرَّر، فعليه اقتناص اللحظة الممنوحة له من أجل أن يملأ إناء عمره بالخير والعطاء.
والحياةُ قائمةٌ على قائمة طويلة من الثنائيات أو الإزدواجيات[9] أو القرائن، ومن بين ثنائياتها: إنّها (استهلاكيةٌ) (إنتاجيّةٌ).. فأنا كما أستهلك الطعامَ يفترضُ بي أن أنتجه أو أنتج ما أحصل به على الطعام ليحقق لي مبدأ (الوفرة).. فالإنتاج وسيلة من وسائل تأمين الاستهلاك، ولن تدورَ عجلةُ أو عربةُ الحياة بالاستهلاك وحده، ليس في مقابل الحاجات المادية فقط، بل حتى في القضايا العقليّة والفكريّة والمعرفيّة والأدبيّة والأخلاقيّة والفنيّة أيضاً، ومن هنا نشأت، في ذلك كلّه، مدارس ومناهج متعددة، سواء في الفكر أو الفلسفة أو الآداب أو العلوم بحيث أثرت العقل البشري الذي كان ينتهي حيث بدأ الآخرون لاستكمال سلسلة الإنجازات الفكرية والعلمية.. أمّا المستهلكونَ فقط، فقد كانوا على طول الخط عبئاً وعالةً على الحياة يثقلون كاهلها باستنزاف مواردها من غير أن يساهموا في عمليات التعويض المطلوبة لديمومتها وازدهارها أو رفع رصيد مناسيبها.
2- حياةُ اللّامبالاة:
الذين لم يعترفوا حتى الآن بهدفيّة أو هادفية الحياة، وأنّها مصمّمة ومعدّة وفق برنامج نظاميّ غائيّ دقيق: في البدء والمنطلق، والمسار والطريق، والغاية والمنتهى، هم الذين يُشكِّلون اليوم عبئاً ثقيلاً عليها.
اللّاأبالي، أو العبثي، أو اللّاأدري، أو الذي لا يأخذُ بنظام الحياة ولا يعملُ بقوانينها، ويُؤثر أو يرجّح فوضاها على أنظمة السير فيها، فَهِمَ الحياةَ ولكن بطريقة مغلوطة، هو يفهم نظام السير في الحياة كنظام المرور في الشوارع والطرقات، يُقيِّد حركةَ السائق ويحدُّ من حرّيته ولا يطلقها، ولذلك لا يهمّه أن تكثر حوادثُ السير ويزداد ضحاياها، ما يهمّه فقط أن يتحرَّر من جميع القيود ويطالب برفعها لأنّها تقفُ في الضدّ من مصالحه أو رغباته أو شهواته.
إنسانٌ كهذا يريدُ أو يحلمُ أن يصنعَ عالماً خاصاً به، يتصرّف فيه على وفق هواه، وطالما أنّ الإنسانَ اجتماعيّ بطبعه، فإنّ سلسلةً من التفاعلات الاجتماعيّة تحكمه وتضبط قانون سيره في الحياة -شاء ذلك أم أبى- ولن يوجدَ عالمٌ وهميّ متخيّل أو افتراضيّ كذاك الذي في ذهن اللّاأباليين أو العبثيين إلّا في قصص الخيال السينمائي، وإلّا فحتى أولئك الذين عاشوا في جزرٍ نائيةٍ مقطوعةٍ كانوا يجدون أنفسهم مشدودين إلى قوانين لم يكن بإمكانهم التخلُّص أو التملُّص منها.
3- الحياةُ الغرائزية:
أصحابُ هذه الحياة البهيمية يتفرّعون أو ينحدرون عن أصحاب الحياة الاستهلاكية بنحوٍ أو بآخر، فهم يحصرون الحياةَ -على اتساعها- بين قوسيّ (البطن) و(الفرج)، بمعنى أنّهم يعطَلون الجزء العلويّ والراقي من أجسادهم، ويوظفون الجزء السفلي والداني بأقصى طاقته الاستهلاكية.. إنّهم (ضيقون) (بهيميون) (اختزاليون) بمعنى أنّهم يختزلون إنسانيتهم في جانبها الحيوانيّ فقط.
وتلك مسلّمة حياتية لاريبَ فيها، فإذا أهملتَ جانباً من جوانب الجسد، وكشفتَ أو ركّزتَ على جانب آخر، أصبتَ -عارفاً أو غير عارف- الجانب الآخر بالضعف والضمور، ولذلك كانت دعوات التوازن والاعتدال والوسطية تراعي إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، فلا يفهمُ من نقدنا لغرائزية البعض أو اقتصاره على الجانب الحيوانيّ في حياته، أنّنا ضد الغريزة وإشباعها، كلّا، نحن مع تأمين احتياجات الغرائز لكننا لسنا مع التطفيف أو التطرُّف فيها ونحن مع تلبية الشهوات بقدر الضرورة، لكنّنا لسنا مع الانغماس بالشهوات المحرمة.
الحياةُ الرشيدةُ قائمةٌ على مبدأ التوازن، تلك فضيلة معترفٌ بها عقليّاً حتى وإن لم يقل بها دين، فما بالك وقد جاء تأكيد الديانات عليها لحفظ هذا المبدأ الذي يحفظُ للحياة سلامتها من الخلل أو الاختلال؟!
أمّا إذا عدنا إلى التذكيرِ بثنائيات الحياة، فإنّ ما يقابلُ الغرائز هو (العقل) وأيّ تعطيل لقدرات الإنسان العقلية أو الذهنية أو الإبداعية، يفتحُ عليه شراهةَ الغرائز التي تراوحُ عند عتبة حيوانيتها دون أن يلطِّفَ أو يخفِّفَ من حدّتها نسيم العقل ولمساته الحانية فيضعها في إطارها الإنساني المتوازن الموزون، وبالعكس فإذا ما استفحلت وتركت لشأنها فإنّ طاقتها التدميرية ستكون أضعاف قدرة الحيوانات في ذلك، ويعبِّر أحد الشعراء عن هذه الحقيقة بقوله:
يَعاف الذئبُ أنْ يأكلَّ لحمَ ذئبٍ ونأكلَّ بعضَنا بعضاً عيانا
4- حياةُ الأنانية:
طالما آمنّا أنّ الإنسانَ صاحبُ شبكةٍ من العلاقات الاجتماعية التي لا يمكن أن يتنصل أو ينسلخ عنها، فإنّ فرديته أو فردانيته أو شخصانيته أو توحّده في ذاته (أنانيته) هي أخطر ما يواجهه ويواجه العالم بأسره، ولذلك كان المِدماك الأكبر في بناء الشخصية هو تهذيبها لكي تعرف قدرَ نفسها.
الأنانيّ يسعى لأن يكون (السيِّد) دائماً و(المالك) دائماً و(المتصرِّف) دائماً مما لا يسمحُ له أن يكون منخرطاً أو مندكّاً في النسيج الاجتماعي، هو يريدُ أن يُغرِّد خارجَ السربِ، لا لأنّ تغريداته أرق وأعذب وأجمل وقعاً على السمع، وإنما لأنّه لا يستطيع أن يألف ويتآلف مع سربه أو يتفاعلُ اجتماعياً مع محيطه.. هو متمرِّد، نافر، ناقم، متعالٍ، مزدرٍ لغيره ويطلبُ ويطالبُ بأن يُخدم ويبجّل ويطاع ويعلى من شأنه في أيّ وسطٍ يعملُ فيه، وشعاره "الإمارة ولو على الحجارة"!
هو يفهمُ الحياة على أنّها خلقت له وحده ولأجله، لذلك فكلّ ما فيها يجبُ أن يسخّر له ويكون طوع بنانه، وكثيراً ما يردد: "إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القَطْرُ"!!
5- حياةُ الازدواجية والتذبذب والتقلُّب:
أن تتغيّرَ الحياةُ من درجةٍ إلى درجةٍ ومن نوعٍ إلى نوعٍ ومن سيِّئٍ إلى حسنٍ، ومن حسنٍ إلى أحسنٍ، فهذا في الفهم العقلائي الغالب سيرورة أو صيرورة طبيعية في الانتقال من مستوى أدنى إلى مستوى أرقى.
أمّا أن تكون الحياة رجراجة: اليوم مع هذه الجهة وغداً مع ما يناقضها أو يتنافر معها، فهذا ليس رقياً أو تطوّراً نوعياً، وإنما هو تقلُّب الدفّة بحسب اتجاه ريح المصلحة أو المنفعة حتى ولو كانت على حساب الكرامة والعزّة والسمعة.
إنّنا إنّما نذمّ النفاق والمنافقين لأنّهم لا يقفون على أرضٍ ثابتةٍ صلبةٍ فلا يمكن تصنيفهم مع (الأبيض) أو مع (الأسود).. أمّا الرماديّون في الناس، فهم ليسوا الهجينين الذين يتحسّن بهم النسل، وإنما هم صف لا انتمائي.. لا يمكن أن نصنِّفه على البيض (الصلحاء) ولا يمكن أن تضعه في خانة السود (الفاسدين) وإن كانوا إلى هذا الصنف أقرب، لكنهم أسوأ منه لأنّه صريحٌ في سواده وهم متلونون! حتى ليختلط التصوُّر في كلا المعسكرين: أهؤلاء من أنصارنا وموالينا، أم إنّهم المنتصرونَ لمصالحهم الذاتية ومنافعهم الشخصية ليس إلّا؟!
6- حياةُ التطرُّف والغلوّ:
تأمّل في الشكل البياني التالي:
تطرُّف ← وسطيّة → تطرُّف
إنّ كلاً من طرفي الخط هو تطرُّف لأنّه ذهاب إلى الأقصى في الفكر والممارسة والتصورات، أيّ إمّا مغالاة في (الرفض)، وإمّا مغالاة وشطط في (الانتماء) و(الفرض)، وليس الاعتدالُ هو نقطة المركز أو التي تقع في خط الوسط تماماً، وإنما هو المساحة المتحرِّكة بين تطرُّفين.. والمشار إليهما بالسهمين المتجهين نحو الوسط، فكلّ تخلّ عن التطرُّف ونزوح أو نزوع إلى الاعتدال نحتسبه على الوسطية لأنّه متجهٌ إليها وهو واصل إليها طالما أدار ظهره لتطرُّفه، إمّا لأنّه اصطدم بتداعياته المريرة، وإمّا لأنّه أمعن الفكر جيداً في إيجابيات التوازن، فأعاد (النظر) في تطرُّفه ليعيد (الاعتبار) لاعتداله!
الحياةُ الكريمة، العزيزة، السعيدة، كما تؤيدها سيرة العقلاء، لا تحتملُ التطرُّف بأيّ شكلٍ من أشكاله.. إنّه (غريبٌ) و(أجنبيٌّ) و(طارئٌ) عليها، لذلك ترفضه وتلفظه، هي ميّالة إلى الاعتدال والوسطية لأنّ كلَّ شيء زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه، وما الثورات والحركات الإصلاحية في التأريخ إلّا مساعي جادّة وحثيثة لإعادة التوازن لاضطراب البوصلة في اتجاهها المنحرف إلى أحد التطرُّفين: (الإفراط) و(التفريط).
التأريخُ الإنساني -في تجاربه العديدة- يشهدُ أنّ التطرُّف جنى على أصحابه مثلما جنى على المتضررين من سياسته لسببٍ بسيطٍ ومهمٍ، وهو أنّ التطرُّف نهجٌ مضادٌ للفطرة السليمة الميّالة بطبعها وطبيعتها إلى الاعتدال.. فإذا تطرّف إنسان أو غالى في فهمه ومفاهيمه وتعاملاته وعلاقاته، عانى منه المحيطون به مما ينعكس على راحته النفسية، ويقلقُ أو يربكُ علاقاته الاجتماعية، ويجعلها سلسلة متعاقبة من التشنجات والمعاندات والتعصبات والتعقيدات والمناكفات، بل والنزاعات أيضاً.
رؤيةُ بعض العظماء للحياة:
قبل الانتقال إلى الصورة التي رسمها القرآن للحياة، لابدَّ من إلقاء نظرةٍ سريعةٍ على بعض ما استلهمه أو استنبطه بعض عظماء التأريخ ولفيف من مشاهيره، بصفتهم أناساً يشاطروننا إنسانيتنا، وغاية ما هناك أنّهم ربّما أحسنوا قراءةَ الحياة قراءة شمولية، وهذا ما نسعى إلى تلمُّسه أو مقاربته في هذا الكتاب لتكون للقارئ الكريم قراءته أيضاً لحياته الخاصة أو للحياة العامّة.
من أقوال الأئمة من أهل بيت النبوّة : في الحياة، وهي كثيرة ندعو إلى البحث عنها والتأمُّل فيها، ففيها الغنى أوسع الغنى في التعريف بالحياة وعرفانها ومعرفتها، فعن الإمام عليّ 7: «الذكرُ الجميلُ أحد الحياتَين»[10] وعنه 7: «العلمُ أحدُ العمرين»[11]، وعنه7: «اكتسبوا العلمَ يكسِبُكم الحياة»[12]!
وكان 7 يقولُ وهو خيرُ مَنْ خبر الحياة بعد رسول الله 6 لأنّه تلميذه البار: «لا حياةَ إلّا بالدِّين، ولا موتَ إلّا بجحود اليقين، فاشربوا العذبَ الفرات، ينبِّهكم من نومة السبات وإيّاكم من السمائم المهلكات»[13].
وورد عن الإمام الباقر 7: «إنّ الله عزّوجلّ خلقَ الحياةَ قبل الموت»[14]!! ومنه نستوحي أنّ الحياةَ قبل الموت وبعده، وانّه المؤقت والمرحلي والزائل، والحياة هي الباقية، وسيتبيّن من النظرةِ القرآنية أيّ حياة هي الباقية.
- الفيلسوف اليوناني (سقراط): «الحياةُ من دون إبتلاء لا تستحقُ العيشَ»!!
- الفيلسوف الألماني (نيتشه): «لا تمشِ في طريقٍ من طرق الحياة إلّا ومعك سوط عزيمتك وإرادتك لتلهب به كلّ عقبة تعترضُ طريقك»!!
- (فولتير) أحد خطباء الثورة الفرنسية: «بحسن التقدير نجعلُ الآخرين من ممتلكاتنا الخاصّة»!
- (عمر المختار) مفجِّر الثورة الليبية: «إنّني أؤمنُ بحقي في الحرِّية، وحقّ بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كلّ سلاح»!!
«إنّ الظلمَ يجعلُ من المظلوم بطلاً، وأمّا الجريمة فلابدَّ من أن يرتجفَ قلبُ صاحبها مهما حاول التظاهر والكبرياء»!
«كن عزيزاً وإيّاك أن تنحني مهما كان الأمرُ ضرورياً، فربّما لا تأتيك الفرصة كي ترفعَ رأسُك مرّة أخرى»!
«الترددُ أكبرُ عقبة في طريق النجاح»!
- (غسان كنفاني) أديب وروائي فلسطيني: «إما (عظماء) فوقَ الأرض أو (عظام) في جوفها»!
«أن تكون وحيداً أفضل من رفقةٍ سيّئة»!
«(السعادةُ) و (الواجبُ الأخلاقي) متصلان لا ينفصلان»!
«أرجو أن أتمتع دائماً بالعزم والفضيلة الكافيين لكي أحافظَ على أكثر الألقاب التي يُحسدُ المرءُ عليها، وهي لقب إنسان شريف»!!
- (ألبرت انيشتاين) صاحب النظرية النسبيّة: «يبدأُ الإنسانُ بالحياة عندما يستطبعُ الحياةَ خارج نفسه»!
«الثقافةُ ما يبقى بعد أن تنسى كلّ ما تعلمته في المدرسة».
- الشاعر الهندي (طاغور): «شكراً للأشواكِ علّمتني الكثيرَ»!
«ندنو من العظمةِ بقدرِ ما ندنو من التواضعِ»!
«الفشلُ هو مجموعةُ التجاربِ التي تسبقُ النجاحَ»!!
«لا تستطيعُ أن تقلعَ عبيرَ زهرةٍ حتى ولو سحقتها بقدميك»!
- الشاعر الجزائري (أبوالقاسم الشابّي):
ومَــنْ لـم يعـانقْهُ شوقُ الحياة تــبـخّر فـي جـوِّها وانـدثـر
كــذلـك قــالتْ لـي الكائـناتُ وحـدّثني روحُــهـا المسـتتر
إذا مــا طــمحتُ إلــى غــايــةٍ ركبتُ المُنى ونسيت الخَـدر
ومَـنْ لا يحبُّ صعــودَ الجبالِ يعشْ أبدَ الدهرِ بــينَ الحُفَر
وقالت لي الأرضُ لما سألتُ: يا أمُّ هل تكرهينَ البَشر؟!
أباركُ في الناسِ أهلَ الطموحِ ومَـنْ يستلـذُّ ركوبَ الخَطـر
وألعنُ مَـنْ لا يـمـاشي الزمانَ ويقنعُ بالعيش عيشَ الحجَر
هو الكــونُ حيٌّ يحـبُّ الحياة ويــحتـقر المـيتَ مــهـما كَبَر
وتـبقـى البذُورُ التـي حـمِّلتْ ذخــيرَةِ عـمرٍ جميــلٍ غَبَرْ!!
ولك أن تقرأ الحياةَ في عيون عقول الحكماء والأدباء والشعراء الآخرين، بل ومن خلال سِيَر العظماء الذين أثروا الحياةَ، وعمروها وهندسوها وأبدعوا التعاملَ معها، مما لا يسع المجال هنا للاستفاضة فيه.
الحياةُ.. نظرة قرآنية:
حانَ الآن الوقت للنظر إلى الحياة بعيون القرآن، لنرى كم هو قريب أو بعيد ما قلناه عنها.. إنّه مرجعنا الذي نعرض بين يديه نظرتنا أو نتاجنا لنعرف مدى ما يوافقه وما يخالفه.
نَظَرَ القرآنُ الكريمُ إلى الحياة على أنّها صور أربع:
الأولى: (إيجابيةٌ مطلوبةٌ).
الثانية: (سلبيةٌ مرفوضةٌ).
الثالثة: (حياةٌ متغيِّرةٌ متقلِّبةٌ).
الرابعة: (حياةُ الخلودِ).
الحياةُ الأُولى، هي حياةُ الإيمان والطاعة والعمل الصالح والتقوى، وهي الحياةُ المباركةُ (النفّاعةُ)، والعفيفة، والمترفِّعةُ، والمتواضعةُ، الثابتةُ المبدأ، المستفيدةُ من الطيِّبات، المتنعِّمةُ بحلال الله ومباحاته..
الثانية: حياةُ اللهو والعبث والخلاعة والمجون، واقتراف المنكر والفحشاء والبغي والعدوان، الفاسدة المفسدة، المهتمة بالتكاثر والتفاخر والتظاهر والتناحر.
الثالثة: هي حياةُ النفاق المتنقلةُ من الإيمان إلى الكفر ومن الصلاح إلى أتباع الطغيان (بلعم بن باعورا -عالم بني إسرائيل الذي تبع فرعون في أخريات حياته- مثلاً)، ولكن التغير أو الانقلاب ليس دائماً سلبياً، فقد يكون من الفساد إلى الصلاح، كما في مثل قوم يونس 7، وكما في مثل (إخوة يوسف)، وكما في مثل (زليخا) وفي (المخلّفين) الذين ندموا على عدم التحاقهم بالمجاهدين تحتَ لواء رسول الله 6.
هذه (الحيوات) تجدُ لها في القرآن أمثلة ونماذج كثيرة وخيرها الأولى والمنتقل من حال السوء إلى حال الصلاح في النموذج الثالث.
أمّا الحياة الرابعة التي يصفُها القرآنُ بـ(الحيوانِ) أيّ الحياة الدائمة الخالدة ﴿وَإِنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ﴾ (العنكبوت/ 64)، فهي حياةُ البقاء التي وعدَ اللهُ تعالى بها عباده الذين أحسنوا في الحياة الدنيا، فكان جزاؤهم أن كتب اللهُ لهم في الآخرة في أن يعيشوا في النعيم الأبديّ.
إنّ أوصافَ (متاع) و(الدنيا) و(العَرَض) و(اللعب) و(اللّهو) و(الزينة) و(الزهرة) و(الغرور) و(التكاثر) و(التفاخر) وغير ذلك لا تزهد بالحياة، بمعنى أنّنا يجبُ أن لا نعيشَ حياتنا، وإنما تحذِّر من الاستغراق في الحياة الدنيا وكأنّها المحطة الأولى والأخيرة، وإلا فحياتنا فرصتنا الثمينة في بناء الحياة على الأرض بناء خير وعمران وإحسان وازدهار وخدمة لعباد الله، وهي فرصتنا الأثمن في بناء علاقةٍ وطيدةٍ مع الله تعالى بالمتاجرة معه من خلال المزيد من عمل الصالحات والحسنات وفرصتنا في الارتقاء والتكامل والحظوة بأعلى الدرجات.
مخطئٌ إذن مَنْ يتصوّر أنّ الحياةَ ذميمةٌ للأوصاف السالفة الذكر، هي ذميمة لأنّ نظرةَ البعضِ إليها نظرةٌ قاصرةٌ مغلوطةٌ.. وبمعنى آخر، فنحن هنا أمامَ ذم للمتحجرين الذين سمّروا الحياةَ على لقطةٍ واحدةٍ ثابتةٍ غير متحركة.
القرآنُ لم يُقدِّم لنا حياةً واحدةً جامدةً، وإنّما نَوَّع لنا صور الحياة بحسب أصناف الناس المتعاطين معها.
تأمّل في قول الإمام عليّ 7 عندما سمعَ رجلاً يذمُّ الدنيا:
«إنّ الدّنيا (دَارُ صِدْقٍ) لمنْ صَدَقَها..
و(دَارُ عَافيَةٍ) لمنْ فَهِمَ عنْها..
و(دَارُ غِنىً) لمنْ تَزَوّدَ منْها..
و(دَارُ مَوْعِظَةٍ) لمنْ اتَّعَظَ بها...
و(مَسْجِدُ) أحبَّاءِ الله..
و(مُصَلَّى) مَلائكَةِ الله..
و(مَهْبِطُ) وَحي الله..
و(مَتْجَرُ) أَوْلِيَاءِ الله.. اكْتَسَبُوا فيها (الرَّحْمَةَ) ورَبِحُوا فيها (الجَنَّةَ)» [15].
دنيا بهذه الاعتبارات تستحقُ أن تُعاش وأن تُحيا وأن تُعمر.. أمّا اعتبارات المتخذين لها لهواً وعبثاً وزينةً وتفاخراً وتكاثراً، فهي التي تفسدُ الحياةَ وتضيّقها وتحصرها في أُطرٍ أرادَ اللهُ لها أن تكون واسعةً بسعة الحياة ذاتها، وإذا بالظالمين والمفسدين والمتكبِّرين والمنافقين والمجرمين يجعلونها مظالم وجرائم وخرائب ومغانم ذاتية.
إنّه أنت وأنا مَنْ نعطي الحياةَ (وجهها) و(وجهتها):
بإمكاننا أن نجعلها (دارَ صدقٍ) و(عافية) و(غنى) و(موعظة) و(مسجداً) و(مصلّى) و(متجراً)..
وبإمكاننا أن نجعلها: (متاعاً) و(عَرَضا) و(لعباً) و(لهواً) و(تكاثراً) و(غروراً)..
ومن الآن فصاعداً، إذا أردنا أن نمدح الدنيا فلعملنا الصالح فيها.. وإذا أردنا أن نذمّها فلعملنا السيِّئ فيها.. الحياة هي (نحن)!
في الختامِ، سنعرضُ كلَّ ما ورد في التعريف بالحياة وكيفية فهمها فهماً صحيحاً أو فهماً مغلوطاً، على آيّ الذكر إليكم وبحسب تسلسل موضوعات الكتاب:
أوّلاً - نسبيةُ الحياة:
يقولُ الحقّ سبحانه: ﴿وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ (القصص/ 60).
وقال تعالى: ﴿فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ﴾ (التوبة/ 38).
ويقول سبحانه: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ﴾ (الروم/ 7).
علمٌ محدودٌ ظاهري لا يطال عمق العمق ولا يصل إليه.
ويقولُ عزّوجلّ: ﴿.. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة/ 216).
وتلك هي نسبية النظر الإنساني إلى الأشياء ككلّ.
ويقولُ تعالى: ﴿ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللّهِ باقٍ...﴾ (النحل/ 96).
فلا كمالَ ولا مطلقيةَ لشيءٍ دنيوي لأنّه قابلٌ للزوال والنفاد والتلاشي.
ثانياً- آنيةُ الحياة ومؤقتيتها:
قال الحقّ سبحانه: ﴿كلّ مَنْ عَلَيْها فانٍ﴾ (الرحمن/ 26).
وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾ (يس/ 68).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ...﴾ (الجمعة/ 8).
ثالثاً - الحياةُ مزرعة:
قال جلَّ جلاله: ﴿اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ...﴾ (الأنعام/ 135).
وقال تعالى شأنه: ﴿وَمَنْ أَرادَ الآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ (الإسراء/ 19).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسانِ إِلا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى﴾ (النجم/ 39-40).
رابعاً - الحياةُ متجر كبير:
قال الحقّ سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَناكِبِهَا...﴾ (الملك/ 15).
وقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ (فاطر/ 29).
وقال جلَّ جلاله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الصّف/ 10-11).
وقال سبحانه: ﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُورًا * إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ (الإنسان/ 9-12).
خامساً - هادفيةُ الحياة:
قال تعالى: ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة/ 30).
وقال سبحانه: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات/ 56).
وقال تبارك اسمه: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ (هود/ 88).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا﴾ (المؤمنون/ 115).
وقال الحقّ سبحانه: ﴿وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ﴾ (مريم/ 31).
سادساً - الحياةُ ساحة سباق:
قال الحقّ سبحانه: ﴿وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ﴾ (المطففين/ 26).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿وَلِكلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ﴾ (البقرة/ 148).
وقال سبحانه: ﴿وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الزّمر/ 12).
وقال جلَّ جلاله: ﴿لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ﴾ (الصافات/ 61).
وقال تبارك وتعالى: ﴿وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران/ 133).
سابعاً - الحياةُ مدرسة وكتاب مفتوح:
قال جلَّ شأنه: ﴿إِنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ (الكهف/ 7).
وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ﴾ (آل عمران/ 140).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الرّوم/ 9).
وقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لآياتٍ لأولِي الألْبابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ (آل عمران/ 190-191).
ثامناً - الحياةُ معهد دراسيّ لاكتساب الهويّة:
قال الحقُّ سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الإنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ (الإنشقاق/ 6).
وقال جلَّ جلاله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ (البينة/ 7).
تاسعاً - الحياةُ ملتقى إنساني لتبادل المنافع والثقافات:
قال الحقُّ سبحانه: ﴿يا أَيُّها النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ﴾ (الحجرات/ 13).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَناكِبِهَا وَكلّوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك/ 15).
المفاهيمُ المغلوطة:
1- استهلاكيةُ الحياة:
قال تعالى: ﴿.. أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ (الأحقاف/ 20).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران/ 14).
وقال جلَّ جلاله: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكلّوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (الحجر/ 3).
2- حياةُ اللّامبالاة:
قال جلَّ جلاله على لسان اللاهين العابثين اللاأباليين: ﴿إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ (المؤمنون/ 37).
وقال سبحانه: ﴿أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ﴾ (التكاثر/ 1).
3- الحياةُ الغرائزية (البهيمية):
قال الحقُّ سبحانه: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا﴾ (الفرقان/ 44).
4- حياةُ الأنانية:
قال تبارك وتعالى: ﴿وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّة﴾ (آل عمران/ 154).
وقال جلَّ جلاله على لسان أصحاب الجنة (البستان): ﴿فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّها الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ﴾ (القلم/ 21-24).
5- حياةُ الإزدواجية:
قال تعالى عن المنافقين: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ﴾ (النساء/ 143).
وقال سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف/ 2-3).
وقال جلَّ جلاله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ...﴾ (البقرة/ 44).
6- حياةُ التطرُّف والغلوّ:
قال الحقُّ سبحانه: ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ (المائدة/ 77).
-وَآخِرُ دَعْوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ-
[1]- الموتُ قرين الحياة، وهو وإن كان تابعاً ولاحقاً لها، إلّا أنّه الحقيقة الكونية والحياتية الشاملة التي لا استثناء فيها، فكلّ مَنْ عليها فان ويبقى وجه ربّك ذوالجلال والإكرام.. لا أحد من الكائنات الحيّة -سماوية وأرضية- إلّا ويأتي عليه حينٌ من الدهر يموت فيه.
[2]- سواء كان التسبيح -بحسب بعض التفاسير- وارد بمعناه الاصطلاحي الذكريّ العبادي، أو بمعنى وظيفته المخلوق والمسخّر من أجلها، فهذا يعني أنّ لا أحدَ يغرِّد خارج سرب الهادفية الكونية.
[3]- المراد بالأُميين هنا ليسوا الذين لا يجيدون القراءة والكتابة ولايحسنون فكّ الحروف وتركيبها.. فنحن لا نعتبر المتعظ بتجارب الحياة الذي يعقلها ويحسن التعامل معها أُميّاً، بل على العكس الأُميّ الذي يقرأ الكتب في المكتبة ويهمل كتاب الحياة، أو الذي يكتب الحروف ويحفظ الكلمات ولكنّه ينسى المعاني والدلالات.
[4] - غرر الحكم ودرر الكلم، ص450، ح10352.
[5] - مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص216.
[6] - بحار الأنوار، ج1، ص180، ب1، ح65.
[7]- لقد عمّر النبي نوح 7 طويلاً.. أكثر من ألف سنة. سأله ملك الموت عندما أراد أن يقبضَ روحَه: يا أطول الأنبياء عمراً، كيف رأيتَ الحياة؟! قال: كمن دخل من باب، وخرج من أخرى، وقيل: انتقل من (الشمس) إلى (الظل)، مُعبَراً بذلك عن إيحائية قصر الحياة مهما استطالت.
[8]- انظر: المدرسة القرآنية. السيد محمّد باقر الصدر.
[9]- أقسم القرآن الكريم بـ(الشفع) في مقابل (الوتر) ليفهم منه في ما يفهم أنّ الحياة مبنية على مجموعة كونية ازدواجية مقترنة بعضها ببعض، لا يند ولا يشذ عن هذه القاعدة حتى الذرّة أو أصغر من ذلك، ولا وتر واحداً أحداً فرداً صمداً إلّا الله الذي لا إله إلّا هو.
[10] - ميزان الحكمة،ج1، ص710.
[11] - نفس المصدر السابق.
[12] - نفس المصدر السابق.
[13] - ميزان الحكمة، ج1، ص710.
[14] - تفسير نور الثقلين، ج5، ص379.
[15] - نهج البلاغة، ح131.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق