◄من أعظم الأسباب الموصلة إلى السعادة والنجاح في الدُّنيا، والنعيم والفلاح في الآخرة: الإيمان بالله - تعالى - والعمل الصالح الذي هو ثمرة من ثمرات ذلك الإيمان.. قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).
فالمؤمنون بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق، والدُّنيا والآخرة، معهم أُصول وأُسس يتلقّون فيها جميع ما يرد عليهم من أسباب السرور والابتهاج.
فالإنسان له قوّتان: قوّة علمية نظرية، وقوّة عملية إرادية، «وسعادته التامّة موقوفة على استكمال قوّته العلمية والإرادية: واستكمال القوّة العلمية إنّما يكون بمعرفة فاطره وبارئه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق التي توصل إليه، ومعرفة آفاتها ومعرفة نفسه ومعرفة عيوبها، فبهذه المعارف الخمسة يحصل كمال قوّته العلمية، وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم فيها، واستكمال القوّة العملية الإرادية لا تحصل إلّا بمراعاة حقوقه - سبحانه - على العبد والقيام بها إخلاصاً وصدقاً ونُصحاً وإحساناً ومتابعة وشهوداً لمنته عليه، وتقصيره في أداء حقّه...».
فالإيمان هو السياج الذي يحمى المسلم من القلق والضياع. وهو الذي يدفعه إلى عمل الخير وتحقيق السلام والطمأنينة مع النفس ومع الناس، ومع جميع الكائنات.
قال الشاعر العربي:
ولستُ أرى السعادة جمع المال *** ولكـن التـقي هـو السـعيد
وتقوى الله خير الـزاد ذخـراً *** وعنـد الله للأتقــى مزيـد
رُوِي أنّ أحدهم غضب من زوجته ذات يوم فقال لها مُهدّداً: «والله لأشقينك»، فقالت له في إيمان وثبات: إنّك لن تستطيع ذلك أنت ولا غيرك، فقال لها: وكيف ذلك؟! قالت: «إنّ الذي يملك سعادتي هو الذي يملك شقائي، فلو كانت سعادتي في مال لقلت لك: اقطعه عني، ولو كانت سعادتي في حُلّى وجواهر لقلت لك: خذها مني! ولكن سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا يملكه إلّا ربّي».
فهذه المرأة قد فهمت منبع السعادة فهماً حقيقياً:
فالمؤمن قوي الإيمان.. لا يعرف الخوف والقلق، ولا يخشى الموت، لأنّ الآجال بيد الله تعالى، ولا يخاف فوات الرزق، لأنّ الله قد ضمنه له، ولا يقنط لأنّ القنوط كفر ومعصية. ولا يأسى على ما فات، ولا يهتم بما هو آت، فهو في معية الله تعالى وفي كنفه ورعايته.
قال الشاعر:
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالمخاوف كلّهن أمانُ
إنّ الإيمان الصحيح لا يمكن أن يتصادم مع الفطرة السليمة، فلقد خلق الله تعالى الإنسان لغاية سامية، وهدف نبيل، وجاء الإيمان ليجيب عن تساؤلات الإنسان: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فهذه الأسئلة الخطيرة التي تلح على الإنسان في كلّ عصر، وتقضي الجواب الذي يقنع العقل ويشفي العليل، لا يمكن أن يعرف جوابها الحقّ إلّا من الوحي والرُّسل، وقد جاءت به عقيدة الإسلام في أوضح صورة وأكملها. قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون/ 115-116).
فتوحيد الله عزّوجلّ وتمجيده، والفطرة السليمة صنوان لا يفترقان، وهذا التوحيد له أثاره المادّية والمعنوية على الإنسان، يقول ابن القيم: «فالتوحيد يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذّة والفرح والابتهاج والتوبة استفراغ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه وحمية له من التخليط، فهي تغلق عنه باب الشرور، فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد، ويغلق باب الشرور بالتوبة والاستغفار، وأمّا الشِّرك بالله، فإنّه السم الذي يتجرّعه المرء فيكون سبباً لتعاسته وضياعه، فالشِّرك عين قميئة إذا انفجرت في قلب وبدأت تسيل قطرات راشحة توشك أن تتحوّل سيلاً كاسحاً، ويومئذ لا يبقى في القلب إيمان حقّ...».
والشِّرك مضاد للفطرة السليمة ومناقض لها، ولا صِدام بين العلم وبين توحيد الله عزّوجلّ، «فالعلم يعترف باشتياق الإنسان إلى أسمى منه، ويقر ذلك، غير أنّه لا ينظر نظرة حدية إلى مختلف العقائد والمذاهب، وإن يكن يرى فيها طُرقاً تتجه إلى الله. والذي يراه العلم ويقدره جميع المفكرين هو أنّ الاعتقاد العامّ بوجود الله له قيمة لا تقدّر». فتوحيد الله تعالى الذي هو أصل الإيمان، يكون منبعاً لصلاح الإنسان، وسبباً لسعادته في الدُّنيا والآخرة.
الإيمان والثقة بالنفس:
سلك الإسلام في تكوين خلق المُسلِم مَسلكاً شمله من جميع مناحيه، فاتّخذ الوسائل لتأديبه وتهذيبه في مأكله ومشربه، في حديثه وفي مجالسته للناس، في جوارحه ومشاعره، في حُسن معاملته لجميع المخلوقات حتى الحيوانات والجمادات.
وهذه التعاليم الإسلامية التي جاءت لتقويم سلوك الإنسان لم تكن نظريات تستمتع العقول بمناقشاتها، ولا يكون كلاماً يتبرك الناس بتلاوته، ولا يفقهون هديه، ولا يدركون معانيه، وإنّما أنزله الله ليحكم حياة الفرد وينظّم حياة الأُسرة، ويقود حياة المجتمع، وليكون نوراً يضيء طريق البشر، ويخرجهم من الظلمات إلى النور. ولقد قال الله عزّوجلّ في كتابه الكريم: (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة/ 15-16).
فالدِّين هو الذي يقوِّم السلوك، ولذا جاءت العبادات في الإسلام لتكون تمارين متكرّرة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل مستمسكاً بها مهما تغيرت أمامه الظروف. والمؤمن لا يصل إلى كمال السلوك إلّا بالاستقامة، والالتزام بالشرع الحنيف، قال القشيري: «الاستقامة درجة بها كمال الأُمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومَن لم يكن مستقيماً في حالته ضاع سعيه وخاب جهده.. ومَن لم يكن مستقيماً لم يرتقِ من مقامه إلى غيره، ولم يبنِ سلوكه على صحّة» (الرسالة القشيرية/ ص103). ولقد ثبت أنّ القوانين الوضيعة لا يمكن وحدها أن تضبط سلوك المرء، فهي على فرض إصابتها الغرض المقصود فيما يناسب سعادة المجتمع لا تنزع الناس عن الأخلاق الرسمية والأفعال الضارة إلّا ظاهراً.
الإيمان بالله تعالى هو المرفأ الآمن الذي يشفي المرء من علله النفسية.. من الوساوس والظنون، والتشاؤم، ويحرّره من الغضب والضيق والحقد واليأس والادعاء والكبر والأنانية والغرور... وكلّها أمراض نفسية مهلكة. والإيمان يستبدل في النفس علاجات ناجحة بدلاً عن هذه الأمراض المهلكة، فيزرع الثقة بما بيد الله عزّوجلّ وثقة الإنسان بما منحه الله تعالى من قدرات ومواهب. وهذا ما يحقّقه الإيمان الذي تمكّن من القلوب، يقول ابن تيمية: «من أحوال القلب وأعماله ما يكون من لوازم الإيمان الثابتة فيه، بحيث إذا كان الإنسان مؤمناً لزم ذلك بغير قصد منه ولا تعمد له، وإذا لم يوجد دلّ على أنّ الإيمان الواجب لم يحصل في القلب». [ابن تيمية/ الإيمان، ص11). وهذا الإيمان كذلك لا يجافي العلم، فإنّ كلّ تدين يجافي العلم ويخاصم الفكر ويرفض عقد صلح شريف مع الحياة هو تدين فقد كلّ صلاحيته للحياة. وأمّا المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله، الندية أرواحهم بروحه، الشاعرون بنفحاته المحبّة الرضية، فإنّهم لا ييأسون من روح الله، ولو أحاط بهم الكرب، واشتد بهم الضيق، وإنّ المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه، وفي أنس من صلته بربه، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق