◄قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر/ 18).
تذكر الآية الكريمة وتؤكد على ضرورة مراقبة النفس، وأنّ العمل الإنساني بمثابة بضائع ومتاع يرسله الإنسان إلى مكان ما مثلاً ثمّ يلتحق به فيما بعد، كشخص يروم السفر فهو يرسل أمتعته إلى المكان المنشود ثمّ يلتحق بها بعد ذلك.
إنّ أقل تأمّل للإنسان سوف يقوده إلى معرفة أنّه لا أمتعة للسعادة إلّا بالعمل الصالح، وأنّه الرأسمال الوحيد الذي يضمن له سعادة الدنيا والآخرة، ولأنّ الإنسان لا يهتم بهذا الركن فإنّه لا يهتم بالعمل له أيضاً.
إذا كنّا نؤمن بالدار الآخرة فإنّ أوّل شيء يتوجب علينا أن نعرفه هو أنّ الآخرة عالم يقوم على العمل وأن منازلنا هناك إنما هي أعمالنا تتجسد على شكل ورد وشجر وقصر يتألف من سقف وأبواب ونوافذ وحدائق غنّاء تجري من تحتها الأنهار.
وإذا كان إيماننا بالآخرة، لا سمح الله، ضعيفاً لا يغيّر ذلك من الأمر شيئاً وهو أنّ سعادتنا رهينة بأعمالنا وأنّ أمتعتنا الأساسية سعادة كانت أم شقاءٍ إنما تتألف من أعمالنا وأفكارنا وأخلاقنا ونوايانا.
وكان علماء الأخلاق والمربون يأمرون بمحاسبة النفس واستجوابها على القول والفعل أو عدمهما، تماماً كما يفعل المحققون والمفتّشون لدى استجوابهم العاملين، فإذا كان الجواب طيباً والعمل حسناً نال العامل مكافأة على ذلك وإلا فنصيبه التوبيخ أو الغرامة أو السجن.
قد يتصور البعض بأنّ محاسبة النفس هي من شأن أولئك الذين يمارسون الرياضة الروحية أو السالكين ولا معنى لها لدى الناس العاديّين. وهذا النوع من التفكير خاطئ، ذلك أنّ القرآن يدعو إلى محاسبة النفس ولم يحصر دعوته بفئةٍ معينة من الناس. إنّه يخاطب الذين آمنوا كافّة. وكما أشارت الآية الكريمة التي تصدّرت الحديث، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر عليه أن يحاسب نفسه وقد قال الإمام عليّ (ع): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا" وهل الحساب في عالم الآخرة ينحصر بأهل الرياضة الروحية وأرباب السلوك؟ كلا إنّ الحساب يشمل الجميع، وإذن فكلّ من يحمل ولو ذرة صغيرة من الإيمان بالله واليوم الآخر والعدالة والجزاء وأنّ للأعمال دور في تحديد مصير الإنسان في ذلك اليوم يتوجّب عليه أن يحاسب نفسه ويراقبها.
يقول أحد علماء الأخلاق: إنّ العظماء من المؤمنون سابقاً كانوا يعتقدون بأنّ من لا يحاسب نفسه هو إما ملحد باليوم الآخر والمعاد أو أنّه مجنون وإلّا فكيف لمن يحمل في رأسه عقلاً سليماً وهو يؤمن بالقرآن كتاباً من عند الله ينادي: من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، ثمّ لا يحاسب نفسه ويراقب ما يرسله من الأعمال إلى العالم حيث يلتقيها هناك.
ولو تأمّلنا هذا الواجب الشرعي والديني لأدركنا بأنّ محاسبة النفس لا تخص فئة أو طبقة معينة من الناس، ولو تأمّلنا ذلك من وجهة نظر عقلية لأدركنا أيضاً بأنّ محاسبة النفس أمر يشمل الجميع، فالطالب يراجع نفسه ويمتحنها ليعرف مدى فهمه للدروس قبل أن يبدأ فصل الامتحانات، وكذلك السياسي يراجع قراراته وبرامجه وخططه ويحاول اكتشاف نقاط الضعف قبل أن تكتشف من قِبَل الآخرين.
إنّ من أسمى مظاهر العقل هو البحث عن الخطأ في أعماق النفس، أي أنّ الإنسان يغوص في أعماقه الزاخرة بالأفكار والرغبات والميول والعواطف والأفعال والأقوال واكتشاف مواطن الخطأ ومن ثمّ اجتنابها.
من غير المنتظر أن لا يخطىء الإنسان، إذ من الطبيعي أن يخطىء فكلّ ابن آدم خطّاء، ولكن المنتظر من الإنسان الاستفادة من هذا الخطأ وعدم تكراره.
ليس الفرق بين المؤمن وغير المؤمن في أنّ الأوّل لا يخطىء في حين يخطىء الآخر. الفرق يكمن في أنّ المؤمن يستفيد من أخطائه فلا يكررها في حين أنّ غير المؤمن يصدم بأخطائه مراراً وتكراراً دون أن يلتفت إلى ضرورة تجنبها في المستقبل.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق