• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حاجتنا إلى الذاتية الإيمانية

جعفر يوسف الحداد

حاجتنا إلى الذاتية الإيمانية
 ◄عن أبي حازم الأشجعي قال: قال رسول الله (ص) "من أصبح منكم اليوم صائماً؟"، قال أبو بكر (رض): أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة" قال أبو بكر (رض): أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً" قال أبو بكر (رض): أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟"، قال أبو بكر (رض): أنا، فقال رسول الله: "ما إجتمعن في إمرئ إلا دخل الجنة". إنّ الإندفاع الذاتي والإيماني الذي تمثله أبو بكر الصديق في هذا الموقف يرسم لنا منهجاً تربوياً عميقاً في بناء الإيمان في القلوب، وتكوين الشخصية الإسلامية الشاملة والمتكاملة التي تندفع نحو الخير وتقيم البرامج الإيمانية ذاتياً دون توجيه أو أمر أو تكليف، وتلك الذاتية كانت سمة بارزة في ذلك الجيل القرآني الفريد، ولذا كان شأنهم عظيم وسجلاتهم حافلة بالبطولات يوم أن عرفوا الحق فانطلقوا بهمة لا مثيل لها، قال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) (الزمر/ 9)، فهو واحد في دلجة الليل يقوم لله ربه العالمين، يربي نفسه على الطاعة وينهض بها نحو حياة فيها السمو وطلب المعالي.   - حاجتنا إلى الذاتية الإيمانية: إعلم أخي الحبيب أننا لو عدمنا هذه الخصلة نصبح مجرد منفذين لا مستشعرين للأجر، وستظهر العيوب في كل فرد وسيتحول عندها العمل القائم على التقوى ومراقبة الله إلى تكاليف وقتية تنتهي الأعمال بانتهائها، وهذا عين الخطأ وسبيل الوهن، قال رسول الله (ص): "من إستطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل"، وهل العمل الخفي إلا مظهر من مظاهر الذاتية الإيمانية التي تحتاج إليها الدعوة، إنّ الدعوة بحاجة ماساة إلى أصحاب الذتية الإيمانية كهذا الذي قال الحق فيه: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (يس/ 20). أو كالذي جاهد بلسانه وقد غمره الإيمان فدافع عن موسى (ع)، قال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (غافر/ 28). فهم أصحاب نفوس ألزمتهم ذاتية الإيمان أن ينطلقوا ليبلغوا دعوة الله في الآفاق دون إنتظار تكليف أو توجيه أو طلب من إنسان.   - نماذج من الذاتية الإيمانية: عن أبي ذر – رضي الله عنه – عن النبي (ص) قال: قال: ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله فرجل أتى قوماً فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فمنعوه، فتخلف رجل بأعقابهم فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به نزلوا فوضعوا رؤوسهم، فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية فلقي العدو فهزموا وأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له" فما الذي دفع أولئك النفر الثلاثة إلى تلك الأعمال التي لا يعلم بها إلا الله؟ إنها ذاتية المؤمن التي تحلق به إلى المعالي، وتغرس فيه حقيقة الإتصال الوثيق بالله – عزّ وجلّ – ولقد ضرب لنا صحابة رسول الله (ص) أروع الأمثال في ذاتيتهم وإندفاعهم وحبهم للأجر ومواطن العمل، قال تعالى: (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة/ 92)، فأي إيمان هذا؟ وأي تربية إيمانية تلك التي تجعل المرء يتحسر على فوات موطن من مواطن الجهاد في سبيل الله – عزّ وجلّ – إنها ذاتية الإيمان الدافعة والمحركة، فقد أتوا إلى النبي (ص) ولم يأمرهم بذلك، ثمّ تلك الحسرة التي لذعت قلوبهم حتى أفضت بهم إلى البكاء. وفي غزوة تبوك وصحابة رسول الله (ص) يحرسون الجيش في ظلام الليل إذ بهم يجدون رجلاً يحرسهم، فكان حارساً للحرس، ذلك هو الصحابي الجليل "سلكان ابن سلامة" وحين أخبر رسول الله (ص) بشأنه قال: "اللّهمّ إرحم الحرس، وإرحم حارس الحرس". والصور في هذا المقام كثيرة وما ذاك إلا معلم لتلك الأجيال الصاعدة التي حملت لواء الدعوة فكانت أحق به وأهلاً له.   - فردية التبعية: إنّ من حقائق الإيمان بالله تبارك وتعالى، الإيمان بفردية تبعة الإنسان أمام الله، هذه الحقيقة التي تعمق المفهوم الحقيقي للذاتية الإيمانية، فاستشعار العبد بأنّه سيحاسب وحده ولن يجد إلا ما قدّم لنفسه يوم الحساب يدفع بالمرء إلى عبودية مطلقة لا ترتبط بكائن، فالتبعية فردية ولا تزر وزارة وزر أخرى، قال تعالى: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم/ 95)، أي بمفرده دون أهله وحسبه ونسبه وإخوانه وأعوانه (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) (المؤمنون/ 101)، فهو وحده العمل الصالح الذي يسرع بالإنسان إلى أعالي الجنان، قال (ص): "ومن بطّاً به عمله لم يسرع به نسبه"، فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنة هي المأوى، فهي الأعمال التي يوفيها الله عباده دون ظلم، فالله قد حرم الظلم على نفسه في الحديث القدسي الذي يرويه أبو ذر الغفاري – رضي الله عنه – عن النبي (ص) فيما يرويه عن ربه عزّ وجلّ أنّه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" ثمّ يقول سبحانه: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ أوفيكم إياها فمن وجد فيها خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". إنّ إستشعار هذا الأصل الإيماني سبيل نحو ذاتية المؤمن بل وتسابقه إلى الباقيات الصالحات والإستزادة من الخيرات، فالتبعية فردية والحساب فردي وأنت في القبر فرد ويوم العرض فرد، فأعد عدتك وخذ أهبتك لذلك اليوم العظيم.►

ارسال التعليق

Top