اختصارُ الشخصية أو تكثيفها في خصلة كبيرة وحميدة مثل (الاحترام) ليس اعتباطياً، ولا جُزافياً، فلو تأمَّلنا في طول وعرض مساحة الاحترام، لرأينا أنّ احترام الآخر في فكره، ورأيه، وعاطفته، وأخلاقه، وسلوكه، وإنسانيّته، ونظامه الذي اختطّه لنفسه، أو خُطِّط له من جهة سماوية أو أرضية، هو تعبيرٌ عن مقومات شخصية الإنسان المُحتَرِم لغيره، وهذا يحتاج إلى شيءٍ من الإيضاح:
إنّ الذي يرى في الإنسان الذي هو أصغر منه سنّاً وكأنّه (ابنٌ) له، يكون قد احترمه أشدّ الاحترام، وعزَّز ثقته بالمجتمع الذي ينتمي إليه، والذي يتعامل مع الآخر الأكبر سنّاً منه على أنّه بمثابة (أب) له، يُكرِّمُ الشيخوخةَ الصالحة، ويرعى تجربة المتقدِّمين عليه، ويحفِظ للناس مقاماتهم، والذي يحترم الإنسان الذي هو في مثل سنّه أو مقارب لها، يعطي انطباعاً على أنّ احترام الإنسان المماثل في العمر هو احترامُ الأخ لأخيه.. وفي كلّ هذه الحالات الثلاث، فإنّ شخصية الإنسان المُحترِم للصغير والكبير والمساوي، تُعبِّر عن مكنوناتها بأنّها إنسانية بامتياز، وأنّ موجبات الاحترام عندها: (مراعاة الضعف عند الصغير والكبير) و(العناية بمن سبق للعلم والإيمان والعمل)، والاهتمام بالرفيق الذي يؤاخيه بالمحبّة والتقدير.
بل، إنّ اتّهام الإنسان لنفسه وتبرئة ساحة الآخر صغيراً، أو كبيراً، أو مماثلاً، كأن يقولُ عن الكبير هو أفضل منِّي لسابقته في خدمة الناس والدِّين والاختصاص والعلم، وعن الصغير بأنّه أفضلُ منه لأنّه لم يرتكب ما ارتكب من أخطاء وخطايا وقع فيها الشخص الذي يحترم صِغَر الصغير، وعن المماثل بأنّه لا يعلمُ عنه إلّا حُسن الظاهر.. أمّا معرفته بشخصه وشخصيّته هو، فإنّه أدرى بباطنه وما ينطوي عليه، فهو في يقين من معرفته بنفسه؛ لكنّه في شكّ من احتمال أن يكون الآخر أقلّ احتراماً، وفي جميع الأحوال فإنّ من قواعد الاحترام هو (خفضُ الجناح) و(استشعار الدونيّة) لا المذلّة، بل الشعور بالتقصير وارتكاب الأخطاء، في قبال حُسن الظنّ بالآخر.
يضافُ إلى هذا وذاك، أنّ الإنسان - في لحظة غرور - قد تخالجهُ نفسه بخواطر التعالي والإعجاب والفوقية؛ لكنّه إذا (ألجمَ) هذه الخواطر، واعتبر أنّ احترام الناس له دليلٌ على حُسن أخلاقهم، وعلوّ تهذيبهم، لا لأنّه إنسانٌ مُحتَرمٌ بذاته، أو لعلمه، أو مقامه، أو إنجازاته، وأنّ جفاءَهم عنه سببٌ لسوء تعامله وقلّة احترامه لهم، ممّا يستدعي إعادة النظر في سلوكه وتقييمه لتجربته المجتمعية مع الآخرين، وأن يراجع أخطاءه معهم، ويتراجع عنها، لكي يحظى باحترامهم من جديد، إذ إنّ من قواعد الاحترام أنّه لا يبقى ملازماً للشخص مدى الحياة، إلّا إذا كان الإنسانُ حريصاً على احترام ذاته، وتقويمها والمحافظة على استقامتها، بل لأنّ الآخرين لا يهبون الاحترام (مجاناً)، وإنّما هو هدية، أو مكافأة، أو جائزة، أو شهادة على حُسن سلوك الإنسان المحترم، فهم يحترمونه ما بقي مُحتَرِماً لنفسه، فإذا هو (أهان) نفسه، أو أذلّها، أو وضعها في مواضع غير محترمة، أو قلَّل من قيمتها وشأنها، فإنّه يكون قد حكم على نفسه بخلع الاحترام ورفعه عنه.
بقي أن نقول، بأنّ حاجة الإنسانية المتحضِّرة اليوم إلى (الاحترام) أشدّ من حاجتها إلى (الحبّ)، بل إنّ الحبّ يأتي نتيجة طبيعية لكلّ احترام، والتجربةُ أكبر بُرهان.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق