من الملاحظ أنّ القرآن يُدخل في خطابه وإلقائه المعارف والأحكام الوجدانَ والفطرة كجزء آخر يضاف إلى البرهان المنطقي العقلي. والإنسان في تركيبته الأولية الفكرية منطقي بالطبع، وكلّ محاولات رفض المنطق أو الاستكشال عليه تعود في حقيقتها إلى إشكاليات منطقية في جوهرها، ولا تخرج عن دائرة أقيسة المنطق وطرائقه، وهذا بالطبع لا يحدد نوعية المنطق في دائرة معينة، فالمنطق منطق وهو وسيلة للتفكير وآلة فكرية توصل من يراعي ضوابطها إلى النتائج الصحيحة فيما لو اعتمد على مقدمات صادقة وسليمة، سواء كان نوع المنطق برهانياً قياسياً أو استقرائياً يرتكز على نظرية الاحتمال أم التداعيات الوجدانية الأخرى أم منطقاً رياضياً أم وضعياً أم غير ذلك، وعلى هذا الأساس فإنّ كلّ حركة فكرية سوف ترتكز في تركيبها وهيئتها على علم المنطق، وإنما يتم ذلك من خلال تمازج بين مادة التفكير وهيئته، وهذا التمازج غالباً ما لا يتنبه إليه المفكر نفسه إلا إذا كان حاذقاً في علم المنطق متمرساً في خفاياه.
إنّ المنطق القرآني ومن خلال طرحه المواد العلمية والمسائل الفكرية والنظرية بجميع أنحائها يستعرض المضمون تماماً كما يفعله البشر، ولكن يختلف عنهم من جهة:
إنّ القرآن لا يقتصر، حين إلقائه الحقائق، على الطرح العقلي للمسألة، وإنما يتبع بياناته غالباً بالأمر والنهي أو الحثّ والتحريك أو الوعد والوعيد أو مخاطبة وبعث الضمير والوجدان أو إرجاع الناس إلى فطرتهم ومرتكزاتهم الأولية البديهية أو العبرة أو بيان النتيجة من خسارة أو ربح وإظهار العاقبة، ونادراً ما يكتفي القرآن بإلقاء الحقيقة أو الفكرة مجردة عن الدوافع العملية والمؤثرات الذاتية، ويحاول القرآن فرز أنواع التفكير البشري وتمييز أصنافه وتحديد هوية كلّ مشرَب ضمن ضوابط علمية تسهل على العقلاء معرفة المنافق من المؤمن، وتميز العاصي من المطيع، أو الموحد من المشرك.
والسبب في ذلك هو أنّ القرآن ليس كتاب تحليل أو تعليم أو نقد أو تأسيس.. وإنما هو كتاب هداية، وما لم يكن لكل حرف منه أثر عملي فسوف يصير ذلك خلاف غرض الهداية، كيف، والهداية لا تتحقق إلا بالعمل والعزم والتربية والمجاهدة والتوبة والعبادة والطاعة وترك المعصية والمراقبة والمرابطة في ثغور النفس لمواجهة الشيطان في كلّ المقامات الإنسانية، وأما العلم النظري، حسب المنطق القرآني، فإنّه مقدمة لها ليس أكثر، وهذا ما يبيّن حقيقة دعاء الرسول (ص) "اللّهمّ إني أعوذك بك من علم لا ينفع"، وكمثال على ما ذكرنا الآية الكريمة (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32)، وغيرها من الآيات والتي يتجاوز عددها المئات.
العقلانية لا تجتمع مع التعلق بالدنيا:
يقرر القرآن الكريم معادلة عامّة، مفادها عدم اجتماع العقل والعقلانية مع حب الدنيا سواء في فرد أم جماعة أم أمة بكاملها، فبالقدر الذي يتعلق الإنسان بالدنيا كهدف يستجلب حركته العملية، تضعف عقلانيته بهذا المقدار، يقول الله عزّ وجلّ: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأنعام/ 32)، فقد حصرت الآية المباركة كلّ الحياة الدنيوية الممتدة من آدم (ع) إلى يوم القيامة وحكمت عليها بأنها لعب ولهو، وعلى بني الإنسان أن يتوجهوا إلى الآخرة والتي هي من نصيب أهل التقوى، ثمّ بينت الآية الكريمة أنّ هذا المضمون المبارك يتوقف إدراكه وتفهمه على التعقل، فقوله سبحانه: (أفَلا تَعْقِلُونَ) يفيد أن هناك ربطاً خاصاً بين التعقل وبين عدم حب الدنيا، وكذلك بين حب الدنيا وعدم التعقل، وهذا هو مفاد الحصر في الآية.
ومن الواضح أنّ الله سبحانه وتعالى قد أوجدنا في دار الدنيا ولا مناص من الخروج منها إلا بالموت، ومع الموت لا تكليف، ولا معنى حينئذ أن نؤمر بالتعقل أو بعدم حب الدنيا.. وعليه فظرف الأوامر القرآنية هو الدنيا، ونحن هنا مأمورون بتركها، فكيف يكون ذلك؟ وهل هذا إلا عين التناقض؟!
والجواب: هو أنّ العيش في دار الدنيا غير التعلق بها والاطمئنان إليها والمذموم هو الثاني دون الأوّل، وكما جاء في الآية الكريمة: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف/ 176)، وكذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس/ 7-8)، فالمشكلة تنشأ من الغفلة عما وراء الدنيا والانقطاع عن الآخرة بل إنّ المسألة ترجع في حقيقتها إلى توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، ولذلك فلو نظرنا إلى الدار الآخرة أيضاً بنظرة الانقطاع عن الله، فكان الأمر كذلك، ولصارت الآخرة بما هي وجود مستقل عن الله زينة وزخرفاً وسراباً وكما في الآية المباركة (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (القصص/ 60)، حيث لم تقل الآية والآخرة خير وأبقى، وإنما أرجعت الخير والبقاء إلى الله ونَسبته إليه سبحانه مباشرة، وهذه هي حقيقة التوحيد، فلا يُنظر إلى شيء مستقلاً مهما عظم وجوده، ومع النظرة الاستقلالية تصير كل الأمور باطلاً وهلاكاً وسراباً كما عبرت الآية عن هذه الحقيقة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (النّور/ 39)، مع أن أعمال الكافرين كسائر أعمال الناس لها وجود وحيز ومقدار، نعم النظرة الاستقلالية لعالم الوجود تؤدي إلى حرمان هذا العالم من الوجود، كما تقضي به البديهيات الفلسفية وأوليات قانون العلية، فلا يمكن للمعلول أن ينفصل عن علته بحال من الأحوال، والنظرة التوحيدية ترتكز على ذلك دائماً، وعلى هذا الأساس يقرر القرآن الكريم أنّ النظرة الاستقلالية إلى مخلوقات الله، تعتبر شركاً وكفراً، وسوف تؤدي إلى السراب والخسران، ولأجل ذلك نجد القرآن يصف الحياة الدنيا بالزينة، كما في قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7). وكذلك يصف العمل الباطل بالزينة (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام/ 108)، وكذلك: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد/ 20).
ومعنى الزينة هو ما يغطي حقيقة الأشياء فيضيف عليها جمالاً، ولكنه من خارجها، وإلا فلو كان من نفس الشيء فيسمى جمالاً وبهاءً من ذاته، ولا يحتاج ثَم إلى زينة، وحقيقة الدنيا كذلك، فإنّها دار عمل وسعي وتكامل، وهي باب عظيم للوصول إلى الله سبحانه وتعالى ومعرفته، ولذلك فإنّ الأنبياء والرسل والأئمة إنما وصلوا إلى ما وصلوا بهذه الدنيا ومن خلالها، فهي دار البلاء والتربية والابتلاء والتكامل والكدح إلى الله والإعداد والمجاهدة والتزكية والصبر... ولكن الآيات المباركة تريد شيئاً آخر، وهو أنّ هذه الدنيا مع ما عليه من الواقعية والحق والحقيقة – ولا يمكن أن تكون خيالاً ووهماً أبداً – لو قيست إلى الآخرة والهدف الآخر الذي خلقنا الله لأجله، فإنّها سوف تكون كالخيال والسراب، ولكن لو صرفنا الدنيا عن هدفيها، فإنّها تخرج عن حقيقتها وتصير أشبه بالشيء المزين المزخرف، ولذلك تحذر الآيات المباركة من الركون إلى الدنيا فقد جاء في سورة القصص: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (القصص/ 60)، وغيرها...
على هذا الأساس فإنّ حب الدنيا بما هي مرتع للشهوات، وبعدٌ عن الحقيقة، يكشف عن ضعف العقلانية وسطحية الفهم لدى الإنسان، ويكشف أيضاً عن عدم التفكر وانعدام الوعي للحقائق والأهداف التي لأجلها خلق الله هذا العالم المادي، وهو نوع من التعلق بالزخرف والقشر والزينة والسراب، وهذا معنى عدم اجتماع العقلانية مع حب الدنيا.
المصدر: كتاب دراسات قرآنية/ علاقة القرآن بالسُّنّة – مفاهيم قرآنية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق