• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تطهير النفس البشرية بالتقوى

أ. متولي موسى

تطهير النفس البشرية بالتقوى

◄بناء الجسد مادياً ومعنوياً على التقوى
لا شكّ أن كل الأخلاق في حاجة إلى أن تتعهد بالتربية والتهذيب، وذلك للوصول إلى حالة الإنسان المتحقق بالتقوى، ولقد كان رسول الله (ص) يذكر المؤمنين دائماً في خطبة الحاجة التي كان يفتتح بها خُطَبَهُ ومجالسه، وبعدد من الآيات التي تركز على التقوى وهي:
(أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 102).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 70-71).
والحديث عن بناء الإنسان وتكوينه مادياً ومعنوياً على التقوى صُنِّفَتْ فيه مجلدات، ولكني في هذا المقال القصير أحاول لفت النظر إلى القليل من ذلك ترغيباً للقارئ الكريم في الرجوع إلى المصنفات المتخصصة في هذا البحث الهام بإذن الله تعالى:
1- البناء المطلوب: أصل البناء أن يكون في المحسوسات دون المعاني، وبالتالي فاستعماله في المعاني من باب المجاز، وقد وردت النصوص النبوية في غاية الحسن والبلاغة وهي تدل على أنّ الإسلام بناء له قواعد وأركان محسوسة يقوم عليها فقال (ص): "بُنِيَ الإسلامُ على خَمْسٍ: شَهادة أن لا إلهَ إلّا اللهُ، وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصَوْمِ رَمَضان" رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
والبناء في الحديث بناء معنوي شُبِّه بالحسي، ووجه الشبه أنّ البناء الحسي إذا انهدم بعض أركانه لم يتم، فكذلك البناء المعنوي؛ ولذلك أرشد النبي (ص) في الحديث المذكور إلى أنّ الإنسان الذي يتحقق بهذه الأمور الخمسة فقد تمَّ إسلامه، فكما أنّ البيت يتم بأركانه، كذلك الإسلام يتمّ بأركانه المذكورة في الحديث.
وربما يفسر حصر الأركان الخمس في الحديث أنّ العبادة، إما قولية: وهي الشهادتان؛ أو غير قولية؛ وهي: إما ترك وهو الصوم، أو فعل وهو: إما بدني وهو الصلاة، أو مالي وهو الزكاة، أو مركب منهما، وهو الحج.
ولا شك أن بناء الإنسان يتضمن البناء الجسدي بالطعام والشراب، ولقد وردت الأحاديث التي تؤكد على ضرورة بناء الجسد بالطعام والشراب الحلال ومنها حديث أبي هريرة (رض) قال: قال رسول الله (ص): "إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيِّباً، وإنّ الله أمرَ المؤمنينَ بما أمَرَ به المُرسَلِينَ فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا...) (المؤمنون/ 51)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة/ 172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَر أشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ: يا رَبِّ يا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِيَ بالحَرَامِ، فإنِّى يُسْتَجَابُ لَهُ" رواه مسلم في صحيحه.
وهذا الحديث دليل على أنّ الإنسان يثاب على ما يأكله إذا قصد به إحياء نفسه على طاعة الله تعالى ورسوله، وهذا الأمر من الواجبات بخلاف ما إذا أكل لمجرد الشهوة واللذة أو التنعم والتمتع بذلك.
كما أن بناء الإنسان يتضمن أيضاً البناء الروحي، وقد وردت الآيات والأحاديث التي تؤكد ذلك، وهو البناء الأهم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال/ 24).

2- تطهير النفس البشرية بالتقوى:
لقد ضرب الخالق سبحانه للناس المثل في القرآن ببناء المؤمن على التقوى وبناء غير المؤمن على طرف جرفٍ هارٍ، فقال تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة/ 109).
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ الإنسان يتكون من الجسد بمكوناته المادية والتي أشار الله تعالى إليه في قوله (فإذا سويته)؛ والروح التي هي سر الحياة والتي تتمثل في نفخة الروح التي أخبر عنها الخالق سبحانه في قوله: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر/ 29)، وجعل سبحانه في الإنسان موضعاً في جسده إذا صلح بالإيمان صلح الجسد كلّه، وهذا الموضع هو الذي أرشد إليه الذي لا ينطق عن الهوى (ص) في قوله: "... ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فسدتَ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهي القَلْبُ" جزء من حديث صحيح رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وقد جمع ذلك رسول الله (ص) في الحديث الذي ورد عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعود (رض) قال: حدثنا رسول الله (ص) – وهو الصادق المصدوق –: "إنّ أحَدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطن أُمّتهِ أربعين يَوْمَاً نُطْفَةً، ثُمّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلِكَ ثمَّ يُرْسَلُ إليه المَلَكُ فينفُخُ فيه الرُّوحَ ويُؤْمَرُ بأرْبَع كلماتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وأجَلِهِ وعَمَلِهِ وَشَقيٌّ أو سَعِيدٌ" جزء من حديث رواه البخاري ومسلم.
والإشارة في الحديث للرزق وهو ما يتناوله الإنسان من مأكول وملبوس وغيرهما قليلاً كان أو كثيراً حلالاً أو حراماً، ولأجل هو الزمن الذي علم الله تعالى أنّ الإنسان يعيشه في الحياة الدنيا، وعمله الذي يكون خيراً أو شراً، وشقيّ بعصيانه الله تعالى، أو سعيد بطاعته لله عزّ وجلّ، والآمر بالكتابة هو الله تعالى الخالق العليم بخلقه.

3- عملية تطهير النفس تتم بالتربية والتهذيب:
علم الإنسان بداهة أنّ السلوك يظهر في خُلق الإنسان، وكل الأخلاق الإنسانية تتعهد بالتربية والتهذيب، وهذا هو الأساس في العملية التربوية، ومكارم الأخلاق كلها خير، وكل مكرمة ترفع صاحبها في الشرف درجة أو درجات، ومن أعظمها أثراً في سعادة الأفراد والجماعات: خلق الحِلم. قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ) (فصلت/ 34).
فبالحلم يحفظ الإنسان على نفسه عزتها، إذ يرفعها عن مجاراة الطائفة التي دست النفس بالمهاترة، ومن أعظم فوائد الحلم: "الفوز برضا الخالق سبحانه، وقد دعانا الله تعالى إلى ذلك في آيات كثيرة أذكر منها قوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134)، وقوله سبحانه: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63).
والحلم خلق عظيم يحتاج إليه الجميع، وخاصة رب الأسرة في منزله، والتاجر في محل تجارته، والعالم في مجلس دراسته، والقاضي في موضع حكمه، والراعي في سياسة رعيته، بل يحتاج إليه كل إنسان – مسلماً كان أو غير مسلم – ما دام الإنسان يعيش بين الناس، إذ أنّ الإنسان مدني بالطبع ولا يطيق العيش وحده.
ومن المخل بنظام الحياة الاجتماعية أن يطلق الإنسان العنان لقوة الغضب، تثور كلما منعت النفوس مما تحب، أو لقيت ما تكره. فمن بلغ أن تكون قوةُ غضبه منقادة للعقل، جارية على مقتضى التقوى: فهو الحليم بحق.
والحلم – شأن الفضائل الأخرى – لا يمنع من الأخذ بالحزم، وهكذا فإنّ التنشئة على الفضائل يجعلها تتلاقى مع بعضها ليتحقق في سلوك الإنسان البر والتقوى.►

ارسال التعليق

Top