◄القصّة القصيرة نوع أدبي "مراوغ"، كما يصفه النقّاد، عصيٌّ على التعريف، مثله في ذلك مثل أي نوع إبداعي حقيقي يستعصي على التعريفات الجامعة المانعة، ويأبى أن تحتويه قوالب جامدة، إذ إنّ الأساس فيه الإبداع، ثمّ يأتي النقد فيرصد الخصائص ويبلورها، ويحوّلها إلى قيم فنيّة يتبعها بعض الكتّاب، أما المبدع الكبير فلا يتقيّد بها. ولهذا فإننا سنكتفي بإشارات عامة توضح الفرق بين الرواية والقصة القصيرة.
يرى بعض النقّاد أنّ الفرق بين الرواية والقصة القصيرة مجرّد اختلاف في الحجم/ القصر أو الطول، فيبدو لهم أنّ القصة القصيرة هي رواية صغيرة الحجم. وما يدل على هذا أن كثيراً مما كان يعد قصصاً قصيرة، في بدايات نشأة القصة القصيرة في الأدب العربي، هو ملخص روايات.
والحقيقة أنّ الحجم/ القصر أو الطّول ليس الفرق الأساس بين الرواية والقصة القصيرة، فالاختلاف بين هذين النوعين القصصيِّين اختلاف في النوع في إطار الجنس الواحد. ففي لغات لا يدل اسم النوع فيها على القِصَر. ويرى بعض النقاد أن مصطلح الأقصوصة بالعربية أكثر دقة، فالقصر ليس سوى خاصيّة كمية نسبيّة، تظهر بنتجية مقارنة شيء بشيء آخر.
يرى النقّاد أنّ الرواية أتت من التاريخ ومن حكايات الأسفار والمغامرات وتفاصيل الوقائع اليومية للحياة، أما القصة القصيرة فجاءت من النادرة والأحدوثة اللتين تنحوان منحى التركيز على اللحظة المهمّة المنطلق إلى الهدف – القمّة، حيث ينبغي التوقّف، وحيث يتم "التنوير".
وفي الوقت الذي تعدّ فيه الرواية نتاجاً أدبياً ملحميّا تعكس حياة كاملة ذات جوانب متعددة، نجد الأقصوصة تعتمد على جزئية مختارة من الحياة، الأمر الذي يفسّر الحجم القصير للأقصوصة وقلة الشخصيات إذا ما قورنت بالرواية.
وإن تكن الرواية إنتاجاً أدبياً ملحميّاً، وقد قيل: "الرواية ملحمة العصر الحديث"، "ملحمة البرجوازية"، فإنّ الرواية تختلف عن الملحمة، فهذه كما يعرّفها النقّاد "جنس أدبي شفوي شعري يعالج المآثر العامة والرائعة لأفراد حقيقيين، أو وهميين، منهمكين في مغامرة جماعية قومية أكثر ما هي فرديّة". وواضح أنّه لا يمكن أن يعزى شيء من هذه الأشياء إلى الرواية، إذ إنّ الرواية لا تحكي حكاية الماضي القومي البطولي، وإنّما حكاية التجربة الشخصية الفرديّة، أو التفكير الحر الذي ينجم عنها.
إنّ طبيعة التجربة المولّدة رؤية تسعى إلى تجسّد، تختلف بين تجربة قلق واضطراب سريعين يعيشها قاص موهوب، وبين تجربة بحث هادئ متأمّل يعيشها روائي موهوب أيضاً، ففي الحالة الأولى يسعى القاص إلى التقاط الجزئية الدالة من الحياة اليومية التي يعيشها أو يرصدها وعزلها، وفي الحالة الثانية يسعى الروائي إلى رصد تفاصيل حياة كاملة ونسج ما يختاره منها في نسيج روائي، إن طبيعة التجربة تحكم اختيار مادة القص وكيفية أداء هذه المادة، الأمر الذي يحدد نوع القصّ.
يرى أكونور أنّ القصة القصيرة هي "فن اللحظة المهمة، واختيار هذه اللحظة من أدق مهارات القصّاص البارع، فإن أجاد الاختيار وإقامة البناء القصصي من ثم، فإنّ هذه اللحظة قد تكشف عصراً بكامله. فالقصة القصيرة تجسّد اللحظة المهمة في بناء فني قوامه الأساس التكثيف والتركيز والتقطير، الذي يشمل كل كلمة وكل جملة والشخصيات والمواقف والوصف والحوار.. إلخ، أو هي تجسّد جزئية مغلقة محددة تنمو باطراد سريع إلى اكتمال نص لغوي ينطق بالدلالة. ولهذا يرى بعض النقّاد أنّ القصة القصيرة تتفق مع القصيدة الغنائية عادة وفي اتجاهها الذاتي، وذلك بالقدر نفسه الذي تتماثل فيه الرواية مع الملحمة.
القصة القصيرة أقصر، من حيث الكتابة والقراءة والطباعة، ما يجعلها تجد فرصاً أكثر للنشر والتلقّي وخصوصاً في الصحافة، ولكنها في الوقت نفسه تحتاج إلى تركيز، كما أنها لا تشبع حاجة القارئ إلى المغامرة والبطولة، ولهذا، فعلى العكس مما يقدّر تنظيراً، فإنّ الإقبال على الرواية لا يزال أشد.
وإن تكن مساحة الوقائعي تضيق في القصة القصيرة، حيث يصير زمن القصة المتخيّل لحظة، فإنّ القاص ينبغي أن يفيد من تقنيات القص جميعها. ولعل القصر يحتّم عليه أن يكون أكثر مهارة في استخدام هذه التقنيات.
تلد تجربة العيش رؤية خاصة إلى العالم تدفع صاحبها إلى التقاط مشهد، أو لحظة، أو أنموذج يرى فيه، أو يحسّ بوجدانه وفطرته، أو يحدس، أن له دلالة على رؤيته، فيعزله عزلاً كاملاً كما يعزل المصوّر ما تلتقطه عدسته كي لا يتسلل إليه ما يفسده من ضوء لا يريده، أو لا يسيطر عليه، والاختيار والعزل قد يتمّان بتلقائية الموهبة أو بالوعي، من دون ذلك يبقى الحدث خبراً.
ويحلو لكثير من النقّاد إجراء مقارنة توضِّح الفرق بين القصة القصيرة والرواية، ويقو أحدهم: "إن كاتب القصة القصيرة يعطينا قطعة أساسية من الفسيفساء فقط، يمكننا أن نرى من خلالها الزخرف كاملاً لو كنّا على قدر كاف من الإدراك. أما الروائي فيعطينا الزخرف في علاقاته المتشابكة بين القطع نفسها من ناحية أولى، وبين القطع وباقي العناصر المجاورة من ناحية ثانية". ويقول آخر: "فلنقارن الرواية بنزهة طويلة خلال أمكنة مختلفة تفترض رجوعاً هادئاً، والقصة القصيرة بصعود تل هدفه أن يتيح لنا مشاهدة ما يبدو من ذلك الارتفاع".
إنّ هاتين المقارنتين تفيدان بأنّ القاص يجسّد الرؤية إلى الحياة من زاوية معيّنة، وفي لحظة محددة مختارة بعناية، فيُحدث ما يجسّده تأثيراً مفرداً وانطباعاً واحداً، أي يبعث على إحداث نشاط فكري ينفعل بالواقع، وهو يرى إليه ويفسّره ويتخذ موقفاً منه، ينطق بالدلالة على رؤية القاص إلى عصر معيّن أو إلى قضية يطلق عليها عادة "لحظة التنوير". فالقصة القصيرة مجرّد عيّنة من الشيء، بينما الرواية تمثل الشيء كله.
وقد أسهم الناقد الشكلي إيخنباوم في الجدل الدائل في شأن الفرق بين الأقصوصة والرواية حين قال: "إنّ الأقصوصة والرواية ليسا شكلين مختلفين نوعاً فحسب، ولكنهما متناقضان أيضاً، فالرواية شكل توليفي سواء تطورت عبر مجموعة من القصص، أم تركت بإدماج المادة الأخلاقية والسلوكية فيها، أما الأقصوصة فإنها شكل أساسي وأوّلي..".
ويعني إيخنباوم بالشكل التوليفي الشكل المتّصف بتعدّد مراكز الاهتمام وبخطوط القص المتوازية والحكايات المتوازية والاستطراد والكتابات الوصفية وبنموّ تاريخي للشخصية في سيرورة الزمن. أما الشكل الأساسي فهو بناء وحيد مركّز ينشأ وينمو باتجاه إحداث أثر كلي.
إن كلاً من الرواية والقصة يعتمد على التجريب الرامي إلى تجسيد الرؤية الخاصة بناء قصصياً، وهو بناء متخيل مبتدع. كما قلنا، لا يركن إلى قوالب جامدة، فالأساس هو تجربة القاصّ الموهوب، فهي التي تخلق الأشكال.
وكثيراً ما يثير هذا الخلق الفريد حيرة النقّاد وخلافهم. ومن الأمثلة على ذلك، في تاريخ الأدب العربي، "سداسية الأيام الستة" لإميل حبيبي الصادرة، في عام 1969، فقد طرح النقّاد، لدى صدور هذا الكتاب، جملة أسئلة هي هل هو رواية أو مجموعة قصص قصيرة؟ أو لوحات تطمح إلى نوع من التشكّل الروائي؟ أو مجموعة قصص قصيرة تنتظم في إطار ناظم؟ ونعرض، في ما يأتي، آراء عدد من النقّاد لنبيّن الأسس التي استندوا إليها في تمييزهم:
- رجاء النقّاش: السداسية رواية قصيرة كتبها المؤلف على شكل ست لوحات، أو ست قصص قصيرة، لكلّ منها عنوان خاص، ويربط بينها ذلك الجو العام، وهو جو الخامس من يونيو، وتصوّر هذه القصة انعكاسات ذلك اليوم على عرب الأرض المحتلة.
- إبراهيم خليل: إنّ السداسية عبارة عن ست قصص قصيرة ينتظمها مضمون واحد وتدور أحداثها في بيئة واحدة..، تمثل مرحلة المراوحة بين القصة القصيرة والرواية عند إميل حبيبي.
- أحمد عطية: السداسية ليست أكثر من مجموعة قصص قصيرة تحاول تشكيل رؤية من خلال تداعيات حدث خارجي هو الخامس من يونيو 1967 ولكنها ظلت عند حدود القصة القصيرة لا تتعدّاها بسبب اختلاف الشخصيات والأحداث في كل قصة وانفصالها وافتقارها إلى التشابك والتضافر الذي تتميّز به الرواية، كما أنّ الزمن محدود جدّاً وإن سعى الكاتب إلى توسيعه من طريق تيار الوعي والارتداد إلى الماضي، واقتصرت كلّ قصة على موقف أو لحظة مهمة أو لقطة تنير مساحة كبيرة من زمنها وحدثها المستقلين، بوصفها أرقى أشكال القصة القصيرة.►
خالد الفرج: أعجوبة بل أعجب *** كل اللغز بل هي أصعب هي عقرب هي ثعلب *** هي لبوة هي أرنب أو حية ملساء ناعمة *** الأديم وتعطب أو من كلام الليل *** يمحوه النهار فيذهب*أكاديمي من لبنان
المصدر: مجلة العربي/ العدد 639 لسنة 2012م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق