الحبّ الإنساني:
الحديث المأثور عن رسول الإنسانية الأكرم محمّد (ص) والذي يقول فيه صلوات الله عليه: "حبب إليّ من دنياكم ثلاث: العطر، والنساء، وقرة عيني الصلاة". فهل مقصود الرسول (ص) عن حبه النساء هنا، هو الحب الشهواني والحيواني "تعالى رسول الله (ص) من ذلك" أم انّ الحب الإنساني الذي يتمحور حول القلب ويحاكي الروح، وهل يليق بنبي الإسلام الذي جعله الله قدوة البشر في كلِّ أفعاله وأقواله وتقريراته، أن يجعل كلّ همّه وجل تعلقه بحب الشهوات وهو الذي كان جميع لحظاته وسكناته مرتبط بساحة القدس الإلهية، وقلبه محل آيات الله، وطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله.
إذاً فحب النساء وإكرامهنّ والإحسان إليهنّ هو من أخلاق الأنبياء، قال الإمام الصادق (ع): "من أخلاق الأنبياء – عليهم السلام – حب النساء، ومما تواتر عن رسول الله (ص) من توصيات بشأن النساء والرفق بهنّ واعلاء شأنهنّ، تأكيد صريح للأهمية القصوى التي تحتلها المرأة ضمن ساحة التشريع الإسلامي وبناء المجتمع التكاملي الرصين. بل وانّه جعل حب النساء واحترامهنّ مقياس الإيمان والتحرّر من رواسب الجاهلية العمياء في إذلال المرأة واحتقارها حيث قال رسول الله (ص) بهذا الشأن: "كلّما ازداد العبد إيماناً ازداد حباً للنساء".
الإنسان الأوّل.. والزواج:
منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى أوّل إنسان على وجه المعمورة، خلق إلى جانبه زوجة ليأنس بها ويسكن إليها وتأنس به وتسكن إليه وجعل الجنة ونعيمها رغداً لهما يتنعمان فيها كيفما شاءا (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) (البقرة/ 35).
إذاً فالحياة المشتركة للزوجين وتقاسم اللذات ورغد الحياة بدأت مع أوّل زوجين خلقهما الله سبحانه من البشر، فحينما يأتي الخطاب الإلهي لآدم (ع) بالتنعم برغد الجنة لا يأتيه لوحده بل ويشمل زوجه (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ...) وكذلك حينما يتوجّه التحذير الإلهي من غدر الشيطان ومكره فإنّه أيضاً يتوجّه لآدم (ع) وزوجه (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ...) (طه/ 117) لأنّ الشيطان عدو الإنسان بشقيه الرجل والمرأة وهو عدو التآلف والمحبة واجتماع القلوب ومع ملاحظة جميع الخطابات القرآنية التي تتحدث عن قصة آدم (ع) وزوجه وإغراء الشيطان لهما وأكلهما من الشجرة المنهي عنها، وتوبتهما واستغفارهما، وخروجهما من الجنة، فانّها تتحدث في جميعها عن آدم وحواء معاً ودورهما معاً، فقد جاء في سورة الأعراف (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) (الأعراف/ 19-20). "هدف وسوسة الشيطان هي إظهار سوءات الإنسان وعيوبه ونقائصه التي يغطيها لباس الإيمان والتقوى" وقال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (الأعراف/ 20)، "وهذين المنفذين وهما حب الملك والخلود أهم العثرات التي يلج منها الشيطان إلى نفس الإنسان ويوسوس بها الإنسان ويغريه عما أراد الله له"، (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف/ 21)، "تظاهر الشيطان بدور الناصح الأمين واقسامه على ذلك" فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة "وهذا هو أثر الاستجابة لإغراء الشيطان ووسوسته) ونادهما ربهما "المناداة دليل البعد الحاصل نتيجة المعصية من آدم وحواء (ع)" (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 22-23).
وفي آية قرآنية كريمة أخرى يشير الباري جلّ وعلا إلى أنّ هذا المجتمع البشري إنما انحدر من زوجين وهما آدم وحواء وهما أبو البشر (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ...) (الأعراف/ 27).
الأنبياء.. والزواج:
أنبياء الله ورسله هم خير عباد الله الذين يصطفيهم من بين خلقه لرسالاته وهم أوّل وأفضل من يعمل بهذه الرسالات وبأوامر الله ونواهيه، ولهذا نفهم من الإشارة القرآنية في الآية المباركة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً...) (الرّعد/ 38)؟، انّ الأنبياء الذين هم قدوات المجتمع وأفضل من في البشر قد اتخذوا أزواجاً وذرية وعملوا بهذه السنة الإلهية المباركة لأنّها الطريق الوحيد لحفظ الإنسان من الوقوع في مستنقع الشهوات، والوسيلة الأفضل لحفظ الإيمان والتقوى والعفة والطهارة الباطنية والوصول إلى التكامل الروحي والسعادة المرجوة في الدنيا والآخرة. قال الرسول الأعظم (ص): "من تزوج فقد احرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الآخر".
العلاقة الزوجية كما يصفها القرآن:
إن كان هناك أقصر قولاً وأبلغه في وصف العلاقة الزوجية فهو في قوله سبحانه وتعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة/ 187). فعبّر عن الأزواج بانّهم لباس لبعضهم البعض فالمرأة لباس للرجل بما يعطيه معنى اللباس الظاهري والباطني، والرجل لباس للمرأة، فيا ترى لماذا عبر القرآن الكريم عن هذه العلاقة المتداخلة () بين الزوجين باللباس؟ وما هو دور اللباس؟
للإجابة عن هذين السؤالين لابدّ من القول أوّلاً: انّ اللباس كما هو أقرب شيء إلى بدن الإنسان وليس يفصله عنه شيء آخر. وكذلك الزوجين أحدهما أقرب للآخر كاللباس من البدن، إذاً فتشبيه العلاقة الزوجية هنا باللباس، تفسر مدى التقارب والتلاصق بين الزوجين.
ثانياً: كما انّ اللباس يقي الإنسان الحر والبرد وكلّ ما يمكن أن يضر به وكذلك الزوجين يحمي أحدهما الآخر عن كلِّ ما يضره ويؤذيه ويقيه بنفسه العثرات والعقبات.
ثالثاً: اللباس زينة وجمال يضفي على صاحبه ليزيده تألقاً وكمالاً ومحبوبية بين الناس وكذا العلاقة الزوجية فإنّ كلَّ من الزوجين هو زينة وجمال لزوجته.
إذن فتشبيه العلاقة الزوجية بين الزوجين المتقاربين باللباس تحكي لنا مدى التداخل والتلاصق بين الزجين من جهة وانّهما زينة الحياة وزهرتها لبعضهم البعض.
واما جواب السؤال الثاني: ما هو دور اللباس بالنسبة للإنسان؟ فنجده في الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن أثر اللباس: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ) (الأعراف/ 26). الآية القرآنية تبين انّ هناك نوعين من اللباس وأحدهما أفضل من الآخر وهما اللباس المادي واللباس المعنوي الذي توضحه الآية بالقول: (لباس التقوى)، وانّ هناك أيضاً نوعين من السوءات والسوءات جمع سوءة وهي ما تسيء الإنسان ظهورها للآخرين، السوءات المادية الظاهرية، والسوءات الباطنية. فاللباس إذن يقوم بدور إخفاء وتغطية العورات وما يسوء صاحبه ظهوره على مرأى العالمين. واللباس المادي يقوم بمداراة السوءات المادية الظاهرية، ولباس الإيمان والتقوى يقوم بإخفاء السوءات والنقائص الباطنية، فإذا عرفنا قيمة اللباس ودوره فكيف يمكننا تطبيق هذا المعنى واستعارته للعلاقة الزوجية؟
أجل انّ أحد الأهداف المرجوة من الزواج هو الوصول إلى التكامل والبلوغ المعنوي والرشد الأخلاقي، وعندئذ يكون الزوج أفضل سند لزوجته لبلوغ هذه الدرجة المعنوية، والمرأة أيضاً تكون خير عون للرجل على دنياه وآخرته.
فالرجل يكون خير معين لتغطية ومعالجة النقائص والعيوب المعنوية لدى المرأة، والمرأة كذلك تسعى لأن تكون هي الأخرى الغطاء الواقي الذي يمنع من ظهور سوءات وعيوب زوجها.
فأي كلام أبلغ وأعمق في التعبير عن صفة العلاقة الزوجية كما جاء في هذا الخطاب القرآني: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ).
المصدر: مجلة الطاهرة/ العدد 162 لسنة 2005م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق