• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

بين الخالق وخلقه.. تواصل دائم

سالم القمودي

بين الخالق وخلقه.. تواصل دائم

1-    بين الخالق وخلقه جميعاً:

التواصل بين الخالق وخلقه جميعاً من سموات وأراضين، وشمس وقمر، وملائكة وإنس وجن، وشجر ودواب، وبحار وأنهار، إنما هو تواصل قائم دائم، حيث يتواصل كلّ خلق أو كلّ جنس مع خالقه على نحو ما وبكيفية ما تختلف عن غيره من الأجناس والأنواع الأخرى من الكائنات، وحيث يتواصل الخالق مع خلقه فيحفظ على الكائنات انتظامها، ويديم عليها قوامها، ويدبر أمرها. ومثلما هناك تدخل إلهي مستمر لحفظ الكائنات جميعاً، ودوام قوامها عليها؛ إما من خلال السنن والقوى والقوانين الفيزيائية، التي جعلها الله لذلك، أو من خلال كيفيات أخرى، هناك تواصل دائم كذلك بين الخالق وخلقه... بين الله والكائنات جميعاً. ومثلما التدبير قائم أبداً ومستمر أبداً، فكذلك التواصل قائم أبداً ومستمر أبداً بين الخالق وخلقه جميعاً.

فهناك تواصل بين الخالق وخلقه من جهة الخالق:

·      فالله هو الذي خلق الكائنات جميعاً... هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن وما بينهما وهو الذي يدبر أمر خلقه ويعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وما ينفعهم وما يضرّهم... إلخ. وهو لذلك في تواصل دائم معهم، حتى لا يطغى خلق على خلق، أو جن على إنس، أو جماعة على جماعة.. إلخ.

·      وهو الذي يرزقهم جميعاً: بما يسخره لهم، وبما ينزله من السماء من ماء، وبما يهيئ لهم من فرص الاستعمار والتمكين في الأرض، وبما يمنحهم من قوة ومن قدرة على العمل والبحث عن الرزق:

·      وهو الذي أعطى كّل شيء خلقه ثمّ هدى:

(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50).

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (يونس/ 31).

(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود/ 6).

·      وهو الذي يديم على مخلوقاته انتظامهم وقوامهم.

وهنالك تواصل بين الخالق وخلقه، من جهة الخلق... من جهة ما يجب على الخلق نحو خالقهم:

·      من حيث الإيمان به وإخلاص الدين له وحده.

·      ومن حيث السمع والطاعة لأوامره، واجتناب نواهيه.

·      ومن حيث العبادة والذكر والشكر على نعمه الظاهرة والباطنة.

·      ومن حيث التوبة والاستغفار.

·      ولذلك فإن جميع المخلوقات تسبح بحمد ربها، في تواصل معه.. مع الله خالقها، في خضوع وخشوع:

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (الإسراء/ 44).

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) (الرّعد/ 13).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (النّور/ 41).

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الأنبياء/ 19-20).

·      وجميع المخلوقات تسجد له... تسجد لله خالقها، إيماناً به، واعترافاً بحقه وقدره، وسمعاً وطاعة لأوامره، واجتناباً لنواهيه:

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج/ 18).

ومن لا يسجد طوعاً يسجد كرهاً:

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) (الرّعد/ 15).

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (النحل/ 48-49).

·      بل إن منها لما يهبط من خشية الله، كالحجارة التي تهبط من علو من خشية الله سبحانه:

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة/ 74).

وبذلك يتحقق التواصل من جانب المخلوقات جميعاً مع الله خالقها وبارئها، قياماً بواجبها نحو ربها، الذي خلقها وهيأ لها سبل عيشها.

وإن كنا لا نفقه تسبيح جميع هذه الكائنات ولا نعرف كيفية سجودها لربها. ولكننا نؤمن بأن لكل خلق من خلق الله شعائر ومناسك، ولكل منها  كيفيات لعبادة الله الواحد وتسبيحه وتمجيده:

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ) (الحج/ 67).

(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام/ 38).

وعلى هذا النحو تستمر الكائنات جميعاً في حفظ الله ورعايته، في عمل دؤوب، وفي حركة مستمرة وفي انتظام تام وتوافق وانسجام كلّ إلى غايته، وتستمر الكواكب والنجوم والشمس والقمر في أداء أدوارها وتستمر الأرض في الدوران رغم أنف القانون الثاني للديناميك الحرارية، ورغم مرور الليالي والأيّام، وتغير الظروف والأحوال.

 

2-    بين الخالق وخلقه من بني الإنسان:

وهناك تواصل بين الخالق وعباده، من بني الإنسان على نحو خاص، لما يتمتع به الإنسان من تكريم إلهي خصه الله به:

(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70). ولما له من إرادة ونية وقصد، ومن قدرة على التفكير، وعلى التمييز بين الخير والشر، وعلى الاختيار بين الكفر والإيمان.. بين الهدى والضلال... بين النافع والضار... بين ما يؤدي إلى الجنة وما يؤدي إلى النار.

وهذا التواصل لا ينقطع إلا ما كان من جحود الإنسان ونكرانه وكفره وفسوقه وعصيانه، حيث ينقطع حبل التواصل بسبب ذلك من جانب الإنسان. إلى أن يرجع هذا الإنسان عن غيه وجحوده لنعم الله، ولحقّ الله عليه، ونكرانه لهذا الحق، فيستغفر ربه ويتوب إليه، ويعود إلى التواصل معه... يعود إلى التواصل مع الله، أما من جانب الخالق سبحانه فهو تواصل دائم ومستمر، لأنّه هو الخالق، والخالق لا يتخلى عما خلق وإنما يحفظه ،ويدبر أمره إلى أجله الذي أجله له.

فالله يتواصل مع خلقه من خلال:

·      الوحي:

الذي أوحاه الله إلى أنبيائه ورسله لهداية الناس... والكتب التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، بما فيها من حكمة ومن أحكام، ومن أوامر ونواه، ومن مقاصد وغايات. وهو تواصل من جانب الله سبحانه وتعالى لهداية خلقه إلى الصراط المستقيم، إذا ما استجابوا لدعوات رسله وآمنوا بما أنزل عليهم وعملوا به، والإنسان مخيّر في هذا: بين أن يعتصم بحبل الله ويتواصل مع الله وبين أن يقطع حبل التواصل هذا... مخيّر بين أن يقبل وأن يرفض، بين أن يصدق وأن يكذب. بين أن يؤمن وأن يكفر. ولكن موقف دلالاته ومعانيه، ولكل موقف تبعاته ومسؤولياته التي يلقيها على الإنسان، وعلى الإنسان أن يواجه نتائج أعماله، وأن يتحمل آثارها في الدنيا والآخرة. والعمل بالوحي متواصل أبداً، وإن انقطع الوحي واكتمل الدين، لأنّ الإيمان به متواصل، والعمل به متواصل كذلك دائماً أبداً إلى يوم الدين.

·      والله يتواصل مع عباده من خلال الرزق، ومن خلال الصحة والمرض، وما يهيئ لهم من سبل للعمل والعيش الكريم، وما يمنحهم من جاه وسلطان، وما يمكن لهم في الأرض. ويتواصل معهم كذلك من خلال حفظه لهم، وحفظ قوامهم عليهم، لتستمر الحياة ويستمر الخلق في ممارسة شؤون حياتهم إلى أجلهم الذي أجله كل منهم.

فالله هو الذي يمكن للإنسان في الأرض يؤتيه الملك والجاه والسلطان:

(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26).

·      وهو الذي يمنحه الصحة والعافية:

(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء/ 79-80).

·      والله يحفظ مخلوقاته جميعاً، كلٌّ إلى أجله الذي أجل له:

(فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف/ 64). فلا يلحق المخلوقات عجز عن أداء وظائفها، إلا ما شاء الله:

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (الملك/ 19).

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل/ 79).

لأنّ الله هو الذي يحفظ عليهنّ قوامهنّ وقدرتهنّ على الطيران، وهو الذي يهيء لهن، بفضل ما خلق لهن وما خلق من حولهنّ ما يمسكهنّ في الأجواء فلا يقعن على الأرض إلا بإذنه، وفي ذلك آيات للمؤمنين الموقنين.

·      وهو الذي يثيبه أو يعاقبه في الدنيا قبل الآخرة عما اكتسب من حسنات أو سيئات:

(وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (الشورى/ 20)...

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (آل عمران/ 56).

(وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (التوبة/ 74).

والإنسان يتواصل مع خالقه من خلال:

·      الإيمان:

الإيمان بالله الواحد، والإخلاص في هذا الإيمان، وعبادته على الوجه الذي يرضيه بما في العبادة من خضوع وخشوع وامتثال لأوامر الله. والعبادة من أهم أوجه التواصل مع الله الخالق. لأن منها ما يقوم على العمل وبذل الجهد كالصلاة والصوم والحج. ومنها ما يقوم على الذكر والدعاء وتلاوة القرآن. وهو ما يجعل التواصل في أعلى صوره بين العبد وربه، وفي أرقى أشكاله.

·      العمل الصالح:

وهو العمل الذي يقوم به الإنسان تطبيقاً لإيمانه على نحو واقعي عملي. وتعبيراً عن شكره لله سبحانه وتعالى على نعمه الظاهرة والباطنة:

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر/ 10).

والعمل هو التعبير الحقيقي عن الإيمان.. إيمان العبد بربه والتعبير الحقيقي عن طاعة العبد لربه، وامتثاله لأوامره، واجتنابه لنواهيه، وأساس التواصل بين العبد وربه.

·      الذكر والدعاء:

والله يأمرنا بالتواصل الدائم معه، دون انقطاع، بدءاً من الإيمان به، إلى عبادته وذكره وشكره، إلى العمل المخلص الذي يعبر عن هذا الإيمان في الواقع العملي، إلى الدعاء الذي يعبر عن عبودية الإنسان لله خالقه، ومدى حاجته إليه في السراء والضراء، ومن يقطع هذا التواصل مع الله إنما هو غر جاهل، أو كافر جاحد، أو مستكبر مغرور:

(وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يونس/ 12).

(وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (الزمر/ 8).

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (يونس/ 22-23).

والله قريب سميع مجيب، يجيب دعوة المضطر إذا دعاه:

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ) (النمل/ 62).

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186).

ونحن ندعو، غير أننا قد لا نرى استجابة سريعة مباشرة فنظن أنّ الله لم يستجب لدعائنا، غير أن لذلك أسباباً عديدة، فقد لا يكون الدعاء صادقاً خالصاً لوجه الله الكريم، وقد تسبقه معصية، أو تلحقه معصية، أو قد يكون رياءً أو نفاقاً:

(لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (فصلت/ 49-52).

كما أنّ الاستجابة قد تكون عاجلة مباشرة، وقد تكون عاجلة غير مباشرة، وقد تكون آجلة تتحقق بعد ذلك بأجل قريب أو بعيد، وقد تكون عاجلة في غير ما دعا المؤمن من أجله، أي في خير آخر قد يصيبه المؤمن عوضاً عمّا دعا من أ<له وقد يدفع الله بهذا الدعاء ما كان أعظم مما وقع، وقد تدخّر هذه الاستجابة أو ثواب هذه الاستجابة، للمؤمن في آخرته كثواب من عند الله.

وهو ما يعني أن كلّ السبل مفتوحة، وكلّ الفرص مهيأة للتواصل مع الله سبحانه وسؤاله التوبة والمغفرة، وما على الإنسان إلا الإخلاص في الإيمان ليبلغ الإنسان بذلك درجة الرشد في الإيمان بالله والاستجابة لأوامره، والابتعاد عما نهى عنه في كل فعل وعمل يقوم به الإنسان في هذه الحياة الدنيا.

أما الذين يستكبرون عن عبادة الله وعن التواصل معه بالذكر والدعاء والاستغفار والتوبة فسيدخلهم الله جهنم داخرين:

(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/ 60).

ونحن عباد الله من يجب أن يحافظ على حبل التواصل مع الله وعلى استقرار علاقة العبد بربه من حيث الإيمان بالله الواحد، والإخلاص له في السر والعلن، وإقامة شعائر دينه، والتوبة إليه، والاستغفار من الذنوب والدعاء والذكر، لأنّ الله غنيٌّ عنا ونحن الفقراء إليه... الفقراء إلى رحمته... إلى عفوه... إلى لطفه ورضاه وإلى نعمه:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر/ 15-17).

وعلى الإنسان أن يحدد نوع العلاقة التي يريد أن تكون بينه وبين خالقه وأن يعرف الشروط التي تستلزمها هذه العلاقة لتكون في مستوى التواصل مع الله وحتى يمتد هذا التواصل ويتواصل ويستمر ويدوم.

والتواصل متواصل من قِبَل الخالق سبحانه وتعالى غير منقطع أو متقطع، ورحمة الله الواسعة وسعت كلّ شيء، وباب التوبة مفتوح دائماً أبداً، حتى يتحقق التواصل بين الخالق وخلقه... بين الله وعباده المؤمنين، وفرص التواصل وسبله مهيأة للإنسان في كل وقت وحين، لكن الإنسان هو الذي يجحد ويتنكر، وينسى ربه... ينسى خالقه ليكون بذلك من الذين (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر/ 19)، من الذين قطعوا حبل التواصل مع الله، بظلمهم وجحودهم لنعم الله عليهم ونكرانهم لما كان منهم من ذلك، فأنساهم الله أنفسهم، أنساهم ما ينفعها في الدنيا والآخرة.

 

المصدر: كتاب التأملات في انتظام الأكوان وقوام الكائنات

ارسال التعليق

Top