أسرة
في قصّته مع الإبتسامة حتى في أحرج المواقف وأقسى اللّحظات، يُحدِّثنا الأديب (إبراهيم المازني) عن هذه التجربة الجديرة بالاقتداء:
"علّمتني الحياة الإبتسام! وإنّه لعجيب أن يحتاج المرءُ إلى أن يُعلّمه! ألم يقل بعضهم في تعريف الإنسان: إنّه حيوان يبتسم؟ وأدعى إلى العجب من ذلك أن تكون المِحَن (المصائب) والشدائد هي التي علّمتنيه وعوّدتنيه! إي والله!
فقد كان صدري يضيق، ومرارتي تكاد تنشقُّ من الغيظ، وكنتُ أجزع إذا حاقَ بي (أحاطَ بي) ما أكره، وأقنط (أيأس) من قدرتي على اجتياز المحنة، حتى تلفت أعصابي واسودّت الدنيا في عيني، بل كاد نور عيني يخبو وينطفئ لفرط ما كنت أعانيه من الإضطراب والألم والكمد (الحزن).
ثمّ لطفَ الله بي فتمرّدتُ على نفسي، وصرتُ إذا عراني (أصابتي) ما كان يعروني من الجزع أو الخوف أو الإضطراب، أقول لنفسي: قد جرّبتُ هذا من قبل، وعرفتُ بالتجربة أنّه كلّه يمضي ولا يُخلِّف أثراً، ولا يورثني إلا الأسف على ما انهكتُ من أعصابي في احتماله. ولقد لُدِغتُ آلاف المرّات، فلا يجوز أن أُلدَغ بعد ذلك أبداً.
كان ذلك ما أفعل، ولم يكن يكفي، بل بالسخرية والتهكّم: سخرية العارف، وتهكم المُدرِك للقيم الحقيقية للأشياء، وبالإبتسام الذي يهوِّن كلّ صعب، ويحيل كلّ جسيم ضئيلاً!
وإذا بالإبتسام له فعل السحر أو أقوى. تفتح حنكك ربع قيراط، وتكفُّ عينك أن تُومض قليلاً، فتتغيّر الدنيا كلّها!
تجفُّ الدموع إذا كنتَ تبكي، وينضب مَعينها (يجفُّ ينبوعها)، وينشرح صدرك إذا كنتَ منقبضاً، وتشعر بخفّة في بدنك، بعد أن كان على كاهلك وِقرٌ ترزح تحته (حمل ثقيل لا تستطيع النهوض به)، ويزايلك ما كنت تُحاذِر، كأنّما كان ظِلاً ارتمى عليه نورٌ فنسخه. ويتجدّد الأمل الذي كان قد استحال إلى يأس، وتنشط للعمل والسعي والجهاد وأنتَ مُفعَم (مملوء) بالرجاء (الأمل)، بعد أن كانت رجلاك كأنّما شُدتا إلى قنطارين من حديد. ولا تعود تُبالي أنّك في ضيق، أو أنّك عاطِل أو مريض، أو أنّك فقدتَ عزيزاً، أو أنّ تجارتك بارت وخسرت ألف جنيه!
كلُّ ذلك الكرب المُمضّ (الحزن الشديد) يُصبح غير ذي قيمة لا لشيءٍ سوى أنّك استطعت أن تبتسم! ولستُ أتمنّى للقرّاء إلا الخير مُمضّاً، ولكن ما من حياة تخلو من دواعي الانقباض أو الألم أو الحزن، فليُجرِّبوا الإبتسام إذا مرّ بهم – قد قدّر الله – شيء من ذلك، وليتأمّلوا فعل سحره، فقد وجدته في كلِّ حال وصفة نافعة.
وليس الإبتسام سهلاً في مثل هذه الحالات، فإنّه مغالبة للنفس، ومغالبتها تتطلّب جهداً عظيماً، ولكن الثمرة شهية، وما على المرء أن يتغلّب عليه هو الإستحياء من أن يبتسم في موقف حزن أو كرب شديد، مخافة أن يقول الناس: إنّه يُسرف (يُبالغ) في التكلف. وما من شكٍّ في أنّه لا يتأتّى في أوّل الأمر إلا بتكلّف شديد، ولكنّه لا يلبث بعد أن ينجح في تكلّفه، أن يُصبح طبيعيّاً، لأنّ مجرّد الإبتسام يُفجِّر ينابيع البِشْر (السرور) في النفس فتفيض.
ولأنّ يتكلّف المرءُ الإبتسام خيرٌ – وأسهل أيضاً – من أن يحتمل ما هو فيه من الآلام، وما يساوره من المخاوف والوساوس والأوهام. ومتى ابتسم المرء في الشدائد والمحن، فإنّ الميزان يعتدل من تلقاء نفسه، فيفظن المرء إلى القيمة الحقيقيّة – لا المتوهّمة – لما هو فيه أو لما يخشى أن يكون. فتراهُ يقول لنفسه: إذا كان قد فقد عزيزاً: "لقد مات، وكان لابدّ أن يموت، وسنموت جميعاً إذا وافانا الأجل، فلا حيلة في هذا".
وكان قبل أن يبتسم يقول: يا ويلتاه! وا مصيبتاه! ماذا أصنع الآن؟ لقد فقدت المُعين فأنا ضائع لا محالة!
فجرِّبوا هذا كما جرّبته، واشكروني"!
- تحليل الحالة:
ذكرنا النصّ بكامله لأنّه يشتمل على أمور حيوية في مجال التغيير، حتى ليمكن أن نقول أنّه (عيِّنة) قابلة للدرس والتوظيف.
1- علّمتني الحياة:
الحياة مدرسة، والحياة تجارب، وكلّ ما في فصولها الحلوة والمرّة دروس يستفيد منها الإنسان صاحب التجربة قبل أن ينتفع بها الآخرون، فهذه التجربة التي يحكيها المازني تجربة ذاتيّة عاشها بنفسه، وحصد نجاحها.
2- تعلّم العادي والمعتاد:
قد تبدو الإبتسامة لغة لا تحتاج إلى تعلّم، على اعتبار أنّها جزء من إنسانيّة وخصائص الإنسان، كونه حيواناً مبتسماً، لكنّ تجربة (المازني) تقول: لابدّ من تعلّم العادي إذا أردتَ توظيفه في غير الإعتيادي.
3- المِحَن والشدائد معلِّمات:
تعلّم (المازني) من الشدائد والصعوبات كيف يتغلّب عليها بالإبتسام، وهذه التجربة الصعبة كاشفة عن إمكانيّة مخالفة الطبع ومعاكسة الطبيعة.
4- وصف الحالة السابقة:
عُدْ وانظر في العبارات التي وصف بها (المازني) حالته السابقة قبل أن يتغلّب عليها، فقد كان يضيق صدره، وتكاد مرارته تنشقّ، ويجزع، ويقنط، وتتلف أعصابه، وتسودّ الدنيا في عينيه، ويعاني من الألم والإضطراب والحزن.
5- لطف الله:
أيّ عمل تغييري يحتاج إلى الإستعانة بالله على تحقيقه، فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
6- التمرّد على الذات:
كيف تمرّد (المازني) على نفسه كما يقول؟
(بالإيحاء الذاتي)، وذلك بأن يسأل نفسه عن نتائج ومخلّفات التجارب السابقة ممّا يجب أن لا يعيده ثانية، لما يصحبه من حالات التأزّم النفسي المذكورة.
و(بالسخرية والتهكّم) سخرية العارِف بطبائع الأشياء والأمور، وتهكّم المُدرِك للقيمة الحقيقيّة للأشياء.
و(الإبتسام) الذي يهوِّن الصعاب.
7- مكتسبات الحالة الجديدة:
من جفاف الدموع.. وانشراح الصدر، والشعور بالخفّة، وزوال الحذر، وتجدّد الأمل، والنشاط للعمل، وعدم المبالاة بالضِّيق.
8- صعوبة التجربة:
لم تكن تجربة (المازني) مع الإبتسام في المِحَن والشدائد سهلة يسيرة، حيث يقول: "وليسَ الإبتسام سهلاً في مثل هذه الحالات، فإنّه مغالبة للنفس، ومغالبتها تتطلّب جهداً عظيماً". ولكن صعوبة التجربة لا تمنع من تجريبها.
9- إزاحة العقوبات والحواجز:
دون أيّة عملية تغيير، تقف بعض العقوبات والحواجز لتُثبِّط الهمّة، لكن مراعاتها والعمل على تجاوزها جزء مهم من نجاح التجربة، فالإستحياء من الإبتسام في موقفٍ حزين قد يوحي بالتكلّف، لكن تجربة (المازني) تقول:
- ما من شكّ في أنّه لا يتأتّى في أوّل الأمر إلا بتكلّف شديد، لكنّه لا يلبث أن يُصبح طبيعياً، وتكلّف الإبتسام خير وأسهل من تحمل الآلام.
10- إعتدال الميزان:
عند النجاح والتغلب على الصعوبات يعتدل الميزان تلقائيّاً بأن يلتفت الإنسان إلى القيمة الحقيقيّة – لا المتوهِّمة – لما هو فيه أن لما يخشى أن يكون.
هذه النقاط العشر ليست وصفاً لحالة مريض، وكيف شُفي من مرضه، هي برنامج عمل من أجل التغيير يمكن تلخيصه بما يلي:
1- تشخيص الحالة والسلبيات المرافقة لها.
2- قرار التمرّد عليها والإستعانة بالله في ذلك.
3- التلقين الذاتي.
4- رصد مكتسبات الحالة الجديدة واستشعارها.
5- آليّة التغلب على الصعوبات مغالبة النفس (ترويضها) والتكلّف الإيجابي، وتقييم الأمور بقيمها الحقيقية.
وأمثلة التغيير الناجحة كثيرة:
البعض مثلاً كان ينام في النهار لساعة أو ساعتين، لكنّه قرّر أن يوقف هذه العادة ويلغيها من برنامجه اليومي.
شعر بالصداع ليوم أو يومين أو لبضعة أيام، ثمّ ما هي إلا أيام أُخَر حتى اعتاد الوضع الجديد، فرأى أنّ الصِّداع الذي ألمّ به بعد ترك عادة النوم ظهراً وهمي، أو أنّه ردّ فعلٍ طبيعي لترك عادة مستحكمة تحتاج إلى وقتٍ حتى يزول تأثيرها.
البعض ترك الشاي.. وشعر أيضاً بالصداع.. لكنّه ما لبثَ أن قهر هذا الشعور وما لبث أن استقامت حياته بدون الشاي وكأنّ شيئاً لم يكن.
البعض ترك التدخين.. وشعر كذلك بالصداع والشوق إلى الدخان، لكنّه تغلّب عليه بالصبر والمران والمقاومة.
البعض كان إذا غيّر مكانَ نومه لا ينام، بل إذا تغيّرت وسادته لا يأتيه النوم ويبقى أرقاً قلقاً حتى الصباح، لكنّه بشيء من التصميم غلب هذه العادة وكسر هذا القيد.. جرّب أن ينام في غير فراشه وسريره.. أن ينام على الأرض، وأن يضع أي شيء تحت رأسه حتى ولو كان يديه، وربّما استغنى عن يده وينام بلا وسادة..
في البداية تململ.. وتقلّب في ضجعته الجديدة عدّة مرّات.. لكنّه آلى على نفسه أن يتجاوز الحالة التي أسرته طويلاً.. ونجح.
هذه التمارين في تربية الإرادة والخروج على السائد والمألوف لا تتأطّر بالأمور المادية فقط، بل بكلّ شيء، وهي دليل آخر نضيفه إلى أدلّتنا في أنّ تغيير الطِّباع والعادات ممكن ميسور.
وفي السياق نفسه، يمكن الحديث عن (التلقين الذاتي) الذي قد يعتبره البعض خداعاً وتمويهاً وإيهاماً للنفس، لكنّه سلاح مجرّب من أسلحة تغيير الطباع الذميمة والعادات السيِّئة.
فالنفسُ راغبةٌ إذا رغّبتها **** وإن تُردُّ إلى قليلٍ تقنع
إن قولك: (سأحاول)، (سأعمل)، (سأبذل قصارى جهدي)، (سأطبِّق ما وعدتُ به)، (سألتزم بما اتّخذته من قرارات)، قد يكون فيه شيء من التصميم على العمل، لكنّ قولك: (أنا قادرٌ على فعل ذلك)، أو (أعرفُ أنّ الأمر لا يخلو من صعوبة)، لكنّ قولك: (أنا قادرٌ على فعل ذلك)، أو (أعرفُ أنّ الأمر لا يخلو من صعوبة، لكنّ بشيء من الصبر سأذلِّل تلك الصعوبة).. وخاطِب نفسك: "ابذل جهداً آخر.. حاول ثانية.. خطوة أخرى وتصل، لم يبق إلا القليل.. لستَ أقلَ من غيرك ممّن صمّموا فوصلوا إلى مبتغاهم.. كانت لديهم الإرادة وأنت تملكها.. ما ينقصك هو الإصرار على التنفيذ.. توكّل على الله فهو حسبك.. أليس الله بكافٍ عبدهُ.. ما دام ذلك في عين الله فلا أبالي..." إلخ.
هذه الطريقة من الإيحاء الذاتي، تمنحك قوى معنويّة إضافية ومواجهة نفسية تحتاج إليها في معارك الانتصار على الضعف والطباع الرديئة والعادات المخجلة.
ارسال التعليق