• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوعي بعبادة الدُّعاء

عمار كاظم

الوعي بعبادة الدُّعاء

إذا كان للعبودية حضور محوري في حياة الإنسان، فإنّ الحديث الشريف قد جعل لها عصباً مركزياً يموِّنها بمادّة الحياة الأساسية، هذا العصب هو الدُّعاء. فبحسب الحديث الشريف: «الدُّعاء مخّ العبادة». ومخُّ الشيء خالصه. «والمخّ، أيضاً، هو الدماغ». فبالاعتبار الأوّل، فإنّ عدَّ الدعاء مخّاً للعبادة قد يكون لأمرين: أحدهما أنّه امتثال أمر الله تعالى حيث قال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60)، هو محض العبادة وخالصها. والثاني أنّه إذا رأى نجاح الأُمور من الله قطع أمله عن سواه ودعاه لحاجته وحده، وهذا هو أصل العبادة. وأمّا الاعتبار الثاني، فإن عدّ الدُّعاء بمثابة عقل ودماغ للعبادة، يُظهر وكأنّ الدُّعاء هو الذي يموِّن العبادة بالشرط الجوهري لكي تكون عبادة واعية، عبادة تملك أفق عقلانيتها أو كينونتها العقلانية في الحياة. ذلك أنّ اعتبار الدُّعاء مخّاً للعبادة له جانبان: الأوّل: الإشارة إلى منزلة ومرتبة الدُّعاء بالقياس إلى سائر العبادات. والثاني: الإشارة إلى الدور الذي يجب أن يؤدِّيه الدُّعاء في مسألة العبادة. هذا الدور الذي يماثل دور المخ أو الدماغ. ومن المعلوم أنّ المخ هو شرط الوعي والإدراك والتدبّر الذاتي، ومركز الانفعالات والأحاسيس والمشاعر. وإذا كان يفترض بالدُّعاء أو يشكّل مخ العبادة أو دماغها، فهذا يعني أنّه يفترض به أن يمنح العبادة حضورها الواعي لذاتها لموضوعها، ولجوهر مفهومها الحقّ، ولجذورها الأصلية. فالعبادة لا تستقيم مفهوماً ودوراً ما لم تصدر عن وعي بالفقر الوجودي، بالظمأ الوجودي لله تعالى، وعن معرفة بالله تعالى كما عرّفنا هو نفسه وبالقدر المستطاع لنا.

والدُّعاء في حقيقته يجسّد هذا الوعي، لأنّ جوهر الدُّعاء وسيلة مناجاة ومناشدة واستغاثة وتضرّع واستعانة.. وجهتها كلّها الله سبحانه وتعالى. وهذه في مجملها إنّما تعبّر أصدق تعبير عن عميق الحاجة إلى الله لأنّ قاسمها المشترك الأكبر هو كونها تنطق بلسان الفقر والعوز الكلّي، وتبحث عن الغِنى والكمال عند مَن يملك الغِنى والكمال المطلقين أي الله تعالى. ولأنّ الدُّعاء يجسّد في جوهره - بوضوح - هذا الفقر والارتباط بالمطلق، ولأنّ الوعي بهذا الفقر وبلزوم الارتباط بالمطلق يشكّل جوهر العبادة، بل وعصبها المركزي، كان الدُّعاء، ربّما، مخّ العبادة. فبدون هذا الوعي تفقد العبادة وجهتها وتضل طريقها، وتأخذ لنفسها أشكالاً متنوّعة وأهدافاً بعيدة كلّ البُعد عن الهدف الحقّ. ولعلّ في قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/ 60)، سياقها، والذي يؤكّده، أيضاً، الحديث الوارد عن زُوارة عن أبي جعفر (عليه السلام) حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، قال: «هو الدُّعاء».

ولعلّه في هذا السياق يمكن إدراج وصية الإمام عليّ (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) حيث قال: «اعلم أنّ الذي بيده خزائن ملكوت الدُّنيا والآخرة قد أذن لدعائك، وتكفّل لإجابتك، وأمرك أن تسأله فيعطيك، وهو رحيم كريم، لم يجعل بينك وبينه مَن يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى مَن يشفع لك إليه.. ثمّ جعل في يدك مفاتيح خزائنه، بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدُّعاء أبواب خزائنه».. فالدُّعاء هو مفتاح خزائن الله، «خزائن ملكوت الدُّنيا والآخرة»، وهذا المفتاح يسَّره الله تعالى للإنسان، وجعله في متناول يده، من غير شفيعٍ أو وسيطٍ. من هنا، كان مَن يمتلك حقيقة الدُّعاء، يتمكّن من أن يمتلك مفاتح خزائن الله تعالى. كما أنّ الدُّعاء ليس فقط علاقة مع الله تعالى، وإنّما أيضاً علاقة مع كلّ مخلوقات الله تعالى، لأنّ خزائن الله، خزائن ملكوت الدُّنيا والآخرة، هي خزائن موجودات الله تعالى في كلّ صورها ومراتبها. فالدُّعاء بقدر ما يفتح قلب الإنسان وعقله على علاقة عضوية بالله تعالى، فإنّ من خلال هذه العلاقة، يفتح قلب الإنسان وعقله، على علاقة اتصال وثيق بموجودات ومخلوقات الله تعالى، ما ظهر منها وما بطن، ليغرف ويعبّ من جواهرها وأسرارها بقدر استطاعته. ولعلّه في هذا تحديداً يكمن المعنى الأعمق لكون الدُّعاء «سلاح المؤمن» ولكونه «مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح».

ارسال التعليق

Top