• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العنف ضد الأبناء.. الاصطدام بالحلقة الأضعف

تحقيق: مروة محمد

العنف ضد الأبناء.. الاصطدام بالحلقة الأضعف
عندما تزداد ضغوط الحياة والعمل والالتزامات المادية على الآباء والأمهات، يصبح ذلك مؤشراً على أننا دخلنا مرحلة يسود فيها في منطق العنف تجاه الحلقة الأضعف وهم هنا الأبناء، وهو ما يعني أيضاً أنهم سوف يدفعون ثمن تلك الضغوط في النهاية، هو ما يمكن وصفه بأنه تنفيس أشبه بتنفيس البركان عن ثورته. فبين من يضرب ابنه (11 عاماً) بالحزام ويحرقه بالمكواة لسرقة بعض النقود منه، تجد من تعاقب ابنتها (12 عاماً) على علاماتها المتدنية في المدرسة، بحلق . في هذا التحقيق طُرحت المشكلة على بعض الأسر عن كيفية تربيتهم لأبنائهم وجاءت ردود الكثيرين معترفة باستخدام العنف والضرب في كثير من الأوقات كوسيلة للتعبير عن الغضب الذي يعتريهم، وكانت السطور التالية مع الآباء والأمهات وخبراء أسريين ورجال دين. رانيا علبي، ربة بيت تقول: دائماً ما تتعرض المرأة إلى ضغوط نتيجة كثرة الأعباء الملقاة على عاتقها وهو ما يجعلها تصطدم بالحلقة الأضعف التي توجد أمامها باستمرار، أقصد أبنائها، فعندما أمر بظروف نفسية ليست جيدة ينعكس ذلك على أطفالي فأكون أكثر حدة معهم، وأتذكر موقفاً لا يغيب عن مخيلتي، عندما توفى والدي ولم يخبرني أحد لمدة أسبوع كامل، وعندما علمت وسألت والدتي عن سبب اخفائهم الخبر عني أجابت خشيت على أحفادي من أن تنفسي ما بداخلك من حز وغضب عليهم، وكان معها حق، فأي موقف صعب أتعرض له أجدني أكثر حدة مع أطفالي.   - عنف غير مبرر: توافقها الرأي موزة الشحي، موظفة، مستخدمة لفظ "الإسقاط" الذي يقع على شخص لا ذنب له وتشير: لدي5 أبناء هم ثمار زواج تم في سن صغيرة 18 عاماً وعقب تخرجي من الجامعة التحقت بالعمل كمعلمة، دائماً ما كنت أشعر بالتعب والملل من الدوام الطويل ثم متابعة شؤون البيت وغيرها من الالتزامات، وكان أكثر من يعانون معي هم أطفالي وخاصة ابني الكبير، الذي كنت أعنفه وأحياناً أضربه على أي تصرف هو في النهاية صادر من طفل لم يتعد عمره أصابع اليد الواحدة. تضيف: وعندما بدا أكثر عنفاً وحدة وعناداً أدركت أن هناك سوء تصرف في معاملتي له، وعلى الفور أخذت أستشير صديقاتي ومن هن يتمتعن بخبرة في التربية، وكانت النتيجة أن ما وصل إليه طفلي إنما هو بسبب سوء تصرفي معه واستعمال العنف غير المبرر.   - درس لا أنساه: أما خالد علي، مدرب كرة قدم، فيرى أن التربية قد تتطلب أحياناً استخدام العنف والضرب ويقول: لا استخدم العنف كمنهج في تربيتي لابنتَّي، فأنا أحرمهما أحياناً من أشياء يحبناها كاللعب أو التنزه وغيرها كنوع من العقاب، كما لست مع عدم استخدام الضرب بصورة مطلقة مع الأبناء، فأحياناً الموقف يستدعي استخدامه، وأتذكر موقفاً حين كان عمري 14 عاماً حيث قمت بأخذ بعض المال من جيب والدي من دون علمه، وبمجرد أن عرف أخذ يضربني بالعصا، وحينها أدركت مدى الجرم الذي اقترفته وبالفعل علمني درساً لا أنساه، وخلاصة ما أود قوله، أن هناك من المواقف ما تستدعي التعنيف لعلها تكون علامة فارقة في حياةالشخص ولا ينساها أبداً. أما أحمد حنبل، مهندس زراعي، فلم يخرج عن السياق ذاته مسترجعاً شريط ذكرياته مع أبنائه ويشير: يعاني أبناؤنا بالفعل معنا فهم يتأثرون بمشكلاتنا مع الآخرين وأحياناً يتذوقون مرارة ما نحن فيه، ولا أنكر أنني انسقت في هذا من قبل وأكثر من عانى معي ابني الأول الذي كنت أضربه وأعنفه كثيراً على أشياء لا تستدعي ما كنت أفعله معه، والسبب كان خلافاتي مع إخوتي، والتي كانت تؤثر على حالتي المزاجية، وكنت أسقطها على ابني الذي كان يبكي بألم بسبب ضربي له بالعصا التي لم تكن تغيب عن يدي في أثناء أي حديث بيننا، ودائماً ما كنت أندم وأجلس أبكي من شدة عنفي معه. تقاطعه الحديث زوجته "أم محمد" مستنكرة قوله، مادحة إياه في عطفه وحنانه على أبنائه، وتضيف: كانت ظروف صعبة تلك التي مربها زوجي مع إخوته، وبمجرد أن انتهت رجع إلينا هذا القلب الحنون الذي يرفرف علينا بجناحيه ويغمرنا جميعاً بالود والعطاء الذي لا ينقطع.   - الاستمرار في الخطأ: وفي استعراض لرأي بعض الأبناء، جاءت ردودهم مؤكدة الرفض للعنف، وموضحة أن الحوار والنقاش هو أقرب طريق إلى قلوبهم وعقولهم للعدول عن السلوك الذي يغضب الوالدين، يقول عمر حسن الرئيسي (17 عاماً): عندما أشعر بالإهانة تزداد مقاومتي وتُصم أذنيّ عما أسمع، فأنا إنسان ولست شيئاً آخر، وأحب أن يعاملني الجميع من هذا المنطق، وقد جرب والدي كل الطرق معي ووجد أن مفتاح عقلي هو التفاهم، أما العنف والإهانة فليس لهما رد سوى التمادي في الخطأ حتى وإن كان بالغ الضرر علي.   - الحوار هو الحل: يسترجع معنا أحمد سيف آل علي، طالب في الصف الثاني عشر، كيف كان عنيداً، متذكراً بعض المواقف التي عوقب فيها بضرب النعال، كما جاء على لسانه، ويقول: كنت طفلاً مشاغباً وعنيداً، ولكن لم يكن أحد يفكر لماذا كان إصراري دوماً على الخطأ؟، فقد كان بسبب القهر والمعاملة التي تفتقد إلى لغة الحوار والاستماع، وهو بالطبع ما يفتقده جيلنا مع آبائهم، والحقيقة سرعان ما أدرك والدي هذا الأمر، وأصبح الآن أكثر تفهماً وإدراكاً أن ما يقوله يجب أن يكون محل نقاش وقابا للتعديل ولست مجبوراً عليه من منطلق أسلوب الأمر المباشر.   - مبرر مبطن: تقول الدكتورة علياء إبراهيم، الاستشارية الأسرية وخبيرة التنمية الذاتية والبشرية: يلجأ بعض الآباء والأمهات والمعلمين إلى استخدام الضرب مع أبنائهم وتلاميذهم، بحجة التربية والإصلاح، وهو مبرر مبطن في أحيان كثيرة حيث يكون استخدام الضرب نوعاً من التنفيس عن مشاعر الغضب نتيجة فشلهم في السيطرة على الطفل في أمر ما، ومنهم من يستخدمونه بسبب ممارسته عليهم من قبل أسرهم أثناء طفولتهم وتعرضهم للضرب وللإيذاء الجسدي، فبلا وعي يكررون ما حدث معهم وهم صغار، وهناك من الآباء من رفع شعار "العصا لمن عصا" و"اضرب المربوط يخاف السايب" لمجرد رغبته في تحقيق درجات عليا من الانضباط مع أولاده وخوفاً من حالات الانحراف التي يسمع عنها في ظل أساليب التربية الحديثة، ويرى بعض الآباء في الضرب أسلوباً ناجحاً وهم لا يدركون أنه قد ينتج عنه تغيير لحظي نتيجة الخوف، ولكن قد ينعدم لدى الطفل الذي يتعرض للضرب الشعور بالخوف من هذا الإيذاء الذي يتعرض له، ويتحمل ألم الضرب بلا مبالاة. تضيف: هذا العصر أحاط الأطفال بالعديد من وسائل التكنولوجيا التي أدخلتهم عوالم جديدة عبر شاشات التلفزيون والكمبيوتر والألعاب الإلكترونية، جعلتهم أكثر عناداً وتشتتا ورغبة في الخروج من دائرة السلطة الأبوية والمدرسية التي تحرمهم من الاستمتاع بكل هذه المصادر الجذابة جداً، ولذلك أصبح الأطفال يستهلكون ويستنفدون طاقة الأب والأم في الصبر على عنادهم ونشاطهم. وتستطرد قائلة: إن الحياة في عصرنا الحالي تحيطنابالعديد من الضغوطات التي أصبحت جزءاً من التفاصيل اليومية للجميع بنسب متفاوتة، والأسرة بكل أفرادها تأثرت بهذه الدوامة التي أحاطت الأم بأعباء العمل خارج وداخل المنزل واضطرارها أحياناً إلى أن تنسحب من تربية الأبناء في سنواتهم الأولى وتترك هذه المهمة للخادمة التي لا تعي الأساليب التربوية، والتي تحتاج إلى صبر ووعي لينشأ الطفل في ظل قواعد أسرية تمثل سياج الحماية من الانفلات في المراحل العمرية اللاحقة، فإذا لم يتم بناء هذا السياج من قبل الوالدين معاً يلجأ البعض إلى استخدام الضرب لتحقيق إنجاز لحظي، وهي لا تدرك أنها تلغي مفتاح تشغيل الضمير والوعي والاقتناع لدى الطفل الذي سوف يفعل ما عُوقب عليه، عندما يشعر بأنه في مأمن من العقوبة، وهذه حالات نقابلها كثيراً خلال الاستشارات، وخاصة عندما تستخدمه الخادمة وتهدد الطفل بعدم التصريح لأسرته. وتكمل: من الأمور التي جعلت الضرب وسيلة للتنفيس هو غياب الأب عن المنظومة التربوية كونه مصدراً للتمويل المالي للأسرة، وأن التربية مهمة الأم التي بدورها تشعر بأنها غير قادرة على التواصل مع الأبناء فلا تجد إلا الضرب كوسيلة للسيطرة على الأمور، والخطورة تكمن في أن الدائرة تتسع فيذهب الطفل ليمارسه ويطبق الوسيلة التي استخدمها الأبوان أو المعلم مع من في مثل عمره، ويكبر ويطبق هذا على أسرته والأهم من هذا أن الضرب بالصورة الانتقامية التي بدأت تحدث من بعض الآباء، يولد شعوراً بتدني تقدير الذات لدى الطفل وانعدام ثقته في نفسه، والشعور بالجبن أحياناً وبالعنف والتجبر أحياناً أخرى، وكم حدثت حالات هروب من البيت أو حتى التفكير في الانتحار نتيجة لذلك. أما عن طرق ضبط النفس فتشير إبراهيم: يجب أن يخضع أولياء الأمور والمعلمين بصفة دورية للاطلاع على وسائل متنوعة للتعامل مع الأبناء حسب المراحل العمرية المختلفة، إضافة إلى التواصل مع دورات في إدارة الضغوط، حتى لا يكون الضرب وسيلة للتنفيس عما يواجهه الآباء والمعلمون من ضغوط تستنزف كل طاقاتهم في ظل عصر أحاطنا بضغوط تتسع دوائرها يوما بعد الآخر.   ·       د. علي العيدروس: "إن الله رفيق يحب الرِفق ويعطي على الرفق ما لا يعطى على العنف"   الدكتور علي محمد العيدروس، مفتي بدائرة للشؤون الإسلامية ، يقول: اهتم ديننا الحنيف بتربية الأطفال والعناية بهم وتعليمهم ما يجب عليهم في أمور دينهم والقيام بشؤونهم والترغيب في ذلك، وجعله من والواجبات على الآباء والأمهات، وقد وردت في السنة المطهرة أحاديث عديدة في الحث على الاحسان إلى الأطفال ورعايتهم والقيام بشؤونهم وتأديبهم والرفق بهم ورحمتهم، ومن ذلك قول النبي (ص): "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها"، وقال أيضاً (ص): "لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع" ومن أهم الأمور التي ينبغي الاهتمام بها إحسان تربية الأطفال والرفق والرحمة بهم، واجتناب استعمال العنف في التربية والتعليم وسائر شؤون الحياة، وقد قال النبي (ص): "يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه"، ومحبة الأطفال والرفق والرحمة بهم سواء كانوا أبناءنا أو أبناء الغير، فهم نعمة من نعم الله تعالى. ويكمل: على الآباء والأمهات والمربين مراعاة قواعد التربية الإسلامية في تأديب الأطفال وتعليمهم، التي نص عليها العلماء، ومنها استخدام مبدأ الثواب والتشجيع وغيرها من الوسائل التربوية، وقال الغزالي في الإحياء: " ثم مهما ظهر من الصبي خُلق جميل وفعل محمود، فينبغي أن يكرم ويجازى عليه بما يفرح به، ويمدح بين أظهر الناس"، حتى وإن أخطأ الأطفال فيحرم على الآباء والمربين والمعلمين مجاوزة الحد في التأديب والضرب حتى وصل الأمر في بعض البلدان إلى التعذيب بوسائل لا يقرها دين ولا عقل ولا عُرف، ويعقبها الندم والإثم ونفور الطفل والفشل في تربيته كالحوادث التي نسمع عنها في بعض وسائل الإعلام المختلفة عن وقائع أحوال في تعذيب الأطفال كالحرق بالمكواة ونحوها والضرب المبرح والسجن في إحدى غرف البيت أو في الحمام ونحوها، وربما صاحبه تقييد بالحبال وغيرها من الأمور المشينة المحرمة التي قد تتسبب في إصابة هؤلاء الأطفال بعاهات مستديمة أو بعجز كلي أو مرض نفسي يصعب علاجه أو في حالات أخرى إلى الهلاك. وهذه الأمور مخالفة لهدي القرآن الكريم وهدي النبي (ص) وسير السلف الصالح في تربيتهم لأولادهم وبناتهم، ومخالفة للعقل والعرف ومبادئ الإنسانية، وإذا استعرضنا بعض المواقف لنبي الرحمة لوجدناها مغلفة بالحنان والعطف على الأطفال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبّل رسول الله (ص) الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلتُ منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله (ص) يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما فإذا قضى الصلاة وضعهما في حجره، وقال: من أحبني فليحب هذين"، وكان النبي يحمل حفيدته في الصلاة، فعن أبي قتادة رضي الله عنه: "أن رسول الله (ص) كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها". ويتابع: أما من يستخدم العنف فلهذا الأسلوب في التعامل مع الأطفال آثار سلبية خطيرة، أشار لبعضها ابن خلدون فقال: "من كان مُربَاه بالعسف والقهر من المتعلمين، سطا به القهر، وضيَق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمل على الكذب والخُبث (أي التظاهر بغير ما في ضميره) خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلَمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخُلُقاً، وفسدت معاني الإنسانية". وإذا أخطأ أو قصَر الطفل فيؤدَب ويعلَم باللين، وليتدرج في تأديبه بدءاً بالقول والنصح، ثم بالنظرة الحادة ثم ينتقل إلى أخذ بعض ألعابه أو حرمانه من مصروف أو نزهة ولكن لفترة قصيرة غير طويلة على حسب حال الطفل وسنه، ويكون الضرب الخفيف غير المبرح للأطفال الكبار كالكي آخر العلاج والحلول ولا ننصح به، وبشروط ذكرها العلماء يطول ذكرها هنا، منها ألا يكون في الوجه وأن يكون خفيفاً محدوداً وأن يسبقه التنبيه والتحذير، وفي الحديث الشريف: "إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه".

ارسال التعليق

Top