• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العلاقة بين الهدى والتقوى

أسرة البلاغ

العلاقة بين الهدى والتقوى

   (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 1-2).

إنّ القرآن الكريم كتاب هداية، والهداية هي عملية ذهنية وإدراكية، وهي بمعنى نقل الإنسان من المجهول إلى المعلوم.. ولكن! لماذا جعل القرآن الكريم هذه الهداية خاصّة بالمتقين؟

والتقوى هي عملية فعلية، وما الارتباط بين عالم المعرفة وهي الهداية، وبين عالم العمل وهي التقوى؟

الجواب: إنّ من شأن القرآن الكريم أن يهدي؛ ولكن هذه الهداية لا تتحقق فعلاً إلّا للذين استعدّوا لقبول هذه الهداية.. تصوَّر شخصاً في صحراء قاحلة، وفي جوف الليل.. وهناك دليل يدَّعي بأنّه سوف يخرجه من الظلمات إلى النور، فالذي لا يعترف بهذا الدليل، أو يعترف بأنّه دليل؛ ولكنّه لا يعطيه وزناً أو أهمية، هل يخرجه من الظلمات إلى النور؟

لا، كذلك هو القرآن الكريم.. هو دليل ومنقذ ومُخرج من الظلمات إلى النور؛ ولكن لمن؟ للمتقين! فمن هم المتقون؟

أوّل صفة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، حيث إنّ المتقي يجب أن يمتلك رصانة في "البنية الفكرية"، وليس المتقي الذي يمشي ويسعى فقط، بل هو الذي يُحدِّد الطريق، ثمّ يمشي ويسعى، فإنّ "السائر على غير بصيرة، كالسائر على غير الطريق، لا تزيده كثرة السير إلّا بُعداً".

إنّ المتقي ليس هو ذلك الصوّام القوّام، وإنما هو ذلك الإنسان الذي اكتشف الطريق، ورأى الهيكل، ورأى المخطط، ويعلم من أين يبدأ، وإلى أين ينتهي، فآمن بالغيب، وترقّى عن عالم الحواس.. والمتقي ليس إنساناً مادياً تجريدياً، يؤمن فقط بما يرى ويلمس ويسمع! وإنما له قدرة على أن ينتقل من عالم المادة إلى عالم المعنى، ويخترق حُجب الغيب وحُجب المادة، ليصل إلى عالم الغيب.

ومن الغريب أنّ الذين لا يؤمنون بالغيب الأخروي، يؤمنون بالغيب الدنيوي في هذه الدنيا، وكأنّ الله أراد أن يقيم الحجة عليهم! فالأمواج الكهربائية، والأمواج اللاسلكية، وقوّة الجاذبية، والأضواء التي لا تُرى: ما فوق البنفسجية، وما تحت الحمراء، وأشعة الليزر، وما شابه ذلك، كلّها من الغيب الدنيوي.. إنّ هذه الأشياء في الدنيا، ولها آثار خارقة، ومدمرة.. ومع ذلك جعلها الله تعالى غيباً لا تُدرك بحواس، ولا تُلمس ولا تُرى.

مَن منكم رأى الكهرباء على ما تُعطي من بركة في هذا الوجود؟

إنّ من الغريب أنّ بني آدم يؤمن بالغيب في الدنيا، ولا يؤمن بالغيب في الآخرة، فلئن قال: بأنّي آمنت بالغيب الدنيوي لآثاره.. فلِمَ لا يؤمن بالغيب الأخروي لآثاره؟ أليس الله عزّوجلّ له هذه الآثار؟! فانظروا إلى آثار رحمة الله! فلماذا لا تؤمن بهذا الغيب، وتؤمن بهذا الغيب؟ الذين يؤمنون بالغيب، الإيمان بالغيب بكلّ ما غاب عن بصرك، سواء في ذلك المبدأ، وسواء في ذلك المعاد.. ولهذا في آخر هذه الآيات يقول: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) يخصّ المعاد، وهو غيب بالذكر أيضاً.

فإذن، إن ّالمشكلة في بعض السالكين الذين يقفون في سيرهم، أنّ حركتهم وسيرهم ليست مشفوعة بحركة علمية.. ولهذا على المؤمن أن يمتلك هذا البنيان النظري، من أين يصل إلى هذه البنية العلمية في التكامل والسير؟ إنّ هناك ثلاثة أبواب إسلامية: باب الاكتساب، وباب التدبُّر، وباب الإلهام والإلقاء في الروع.

 

أوّلاً- باب الاكتساب:

أن نقرأ ما اكتسبه الآخرون، فإنّه لدينا بعض الكُتب في الكلام والعقائد والعرفان والأخلاق، وهي حصيلة حياة أحدهم.. فهناك بعض الناس قد يعيش عشرين أو ثلاثين سنة في تأليف كتاب واحد منفتح، فهذا الكتاب ثمرة حياته.. ككتاب جامع السعادات، الذي هو ثمرة حياة النراقي، وكتاب المحجة البيضاء، ثمرة حياة الفيض، وأمثالهم.. فالإنسان في ليلة، أو ليلتين، أو في أسبوع، وإذا به ينقل ثمرة حياة إنسان مؤلف مجاهد إلى فكره وإلى قلبه.. ولهذا، فإنّ المؤمن السالك إلى الله عزّوجلّ، لا يمكن أن يستغني عن عالم المعرفة وعالم القراءة.

 

ثانياً- التدبُّر والتأمُّل:

إنّ الله عزّوجلّ أعطاك فكراً، وأمرك بالتدبُّر.. والتدبُّر في كتاب الله (سبحانه)، وفي الطبيعة، وفي الحياة، وفي حركة الوجود، لا يحتاج إلى تخصص، فإنّ القضية تتوقف على التأمل وعلى التحليل.. وهذه قضية فطرية، فالإنسان يُكوِّن صوراً مترتبة، ثمّ ينتقل من المبادئ إلى النتائج.. أنت أيضاً بإمكانك أن تخوض هذا العالم! ولهذا حتى في أشعار الجاهليين، الذين جاءوا قبل النبيّ (ص) ولم يعترفوا برسالة، يلاحظ من خلال قصائدهم أنّ هناك فكراً وفهماً وتدبُّراً، ولو على مستوى تحليل بعض مظاهر الطبيعة.. فإذن، إنّ التدبر أيضاً من صور امتلاك هذه البنية.

 

ثالثاً- الإلهام، والإلقاء في الروع:

إذا تدبَّر الإنسان، واكتسب العلم من غيره، واكتسب من عقله وفكره.. عندئذ يأتي ذلك المدد الإلهي، ليُلقي في روعه ما لا يلقي في روع الآخرين.. فالله عزّوجلّ يعلم كيف يُلقي في روع عباده ما يُلقي، إمّا مباشرة أو عبر ملائكة.. قد يُلقي في روع عبده في ليلة واحدة حصيلة تجارب الآخرين، أو على الأقل يُحوِّل الإيمان النظري إلى سكون في النفس.. وهذا هو معنى الإيمان (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) غير المعترفين بالغيب.

فالإنسان قد يعترف، وقد يعلم، وقد يتيقّن بالغيب، إلّا أنّه لا يتحول إلى قوّة مطمئنة، فالإيمان فيه عنصر الاطمئنان والأمن.. والاطمئنان والأمن قد لا يقترنان مع العلم.. هنا يأتي دور الغيب في أمرين: الأمر الأوّل: في إعطائك المعرفة النظرية، وثانياً: في تحويل المعلومة النظرية إلى حالة اطمئنان ويقين باطني.. "هم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون، كأنّ زفير جهنم في أصول آذانهم". 

ارسال التعليق

Top