العفو خلقٌ عالٍ، حضّ الله عزّوجلّ عليه رسوله وعباده، فقال سبحانه وتعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (آل عمران/ 159)، كما أمره بالعفو عن أهل الكتاب، بقوله جلّ جلاله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) (المائدة/ 13). وجاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللّهمّ إنّك عفوٌّ كريمٌ تُحبّ العفو، فاعفُ عنِّي».
فالعفوُّ والغفور اللّذان يشيران إلى صيغة المبالغة، أي أنّ العفو هو كثير العفو، والغفور هو الكثير الغفران، يُعلِّمان أتباع القرآن وتلامذة المدرسة الإسلامية كيف يكون التجاوز عن الذنب، وكيف يُترك العقاب، حتى ورد أن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب كلّها جميعاً بما فيها الشِّرك الذي إذا تابَ منه العبد ووحَّد الله سبحانه غفر الله تعالى له، يقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (الزمر/ 53).
وعلى ضوء ما تقدّم، فإنّ التخلّق بأخلاق الله يعني اتّخاذه المثل الأعلى، فكما تريد من الله تعالى أن يعفو عنك، ويُكفِّر عن سيِّئاتك، ويغفر لك ذنوبك كلّها، فإنّك لكي تستطيع الحصول على ذلك وتأمينه وضمانه، لابدّ أن تعفو عمّن ظلمك، وتصفح أو تحسن إلى مَن أساء إليك. ويقول تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (النور/ 22). فكن على يقين أن مسامحتك الآخر: أخاً أو صديقاً أو قريباً أو زميلاً أو زوجاً، أو حتى غريباً، لن تكون بلا ثمن، فثمنها الكبير أنّ الله تعالى يُسامحك ويعفو عنك ويغفر لك أضعاف ما غفرت لصاحبك.
لقد بشّر الله تعالى العافين عن الناس بالجنّة، فقال: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134). وهل بعد الجنّة خير، أو ثمن أعلى؟ والإسلام إذ يوصي بالعفو، فإنّه يُقرِّر أنّ من حقّ المظلوم أن يعاقب على السيِّئة بمثلها، بشرط الإصلاح، إلّا أنّ العفو أكرم وأقرب إلى مرتبة الإحسان. قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى/ 40)، أي مَن محاها ولم يُعاقب عليها، ومَن يفعل ذلك غير المُسامِح ذي النفس الكبيرة، وقديماً قيل: (المُسامِح كريم).
وللعفو عند المقدرة أثر كبير في النفوس، ولا أدلّ على ذلك من عفو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل مكّة عند فتحها، إذ قال لهم بعد أن لقيَ ما لقيَ منهم من الأذى والعنت والإعراض والجحود: «إذهَبُوا فأنتُم الطُّلقاء».وآية التسامح في قوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (فصلت/ 34)، تشمل هذا المبدأ، ولذلك فبمجرد تبنِّي الفرد لقيمة هذه الفكرة الإيجابية: عدم استواء السيِّئة والحسنة، سيكون قادراً على ممارسة سلوك التسامح.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق