إنّ المتأمِّل في آيات القرآن الكريم والناظر في بيانه، يكشف لنا جليّاً أنّ القرآن يريد أن يبني مجتمعاً إنسانياً يقوم على أساس الحقّ والعدل وقيم الأخلاق، وأن يكون مجتمع أمن وسلام، خالٍ من الجريمة والعدوان والممارسات الأخلاقية الهدّامة. ففي الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل/ 90-91)، وفي الآية: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء/ 105). يضع القرآن أُسساً هامّة ومتينة لبناء المجتمع، وهي: العدل، الإحسان، إيتاء المال لذي القُربى، النّهي عن البغي، الوفاء بالعهود والإيمان، أنّ القرآن نزل بالحقِّ، وهو يحمل رسالة الحقّ.
وفي الآيات: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ) (الزّمر/ 17-18)، نجد مرتكزات ومبادئ أساسية لبناء المجتمع الإنساني، وهي اجتناب الطاغوت وبيان منهج التعامل مع الكلمة والفكرة، فالقرآن يُبشِّر، الذين اجتنبوا الطاغوت.. الطاغوت الفكري المتسلِّط.. الطاغوت السياسي.. الطاغوت الاجتماعي، ويُبشِّر الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه وأولئك هم أولو الألباب في حسابه وتقييمه، أصحاب العقول والفكر النيِّر. وفي الآية: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف/ 145). نقرأ بياناً قرآنياً غاية في الأهمية والتسامي الأخلاقي، في مجال القول والعمل والقضاء والسياسة والمال؛ ليرتقي ببناء الإنسان الاجتماعي وسلوكية المجتمع.. يدعو القرآن الإنسان لأن يأخذ بأحسن ما يأمره الله به، فإنّ الله أمره بما هو حَسن، وما هو أحسن، ودعوة القرآن هي أن يأخذ الناس (بأحسنها).
وبالجمع بين مفردات الآيات الآنف ذكرها، تتشكّل أمامنا منظومة القواعد الأساسية لبناء المجتمع الإنساني والتسامي به وفق منهج القرآن يريد أن يبني المجتمع على أساس إقامة الحقّ والعدل، اجتناب الطاغوت، العمل بالحَسن، والإحسان، والأحسن، حماية المجتمع من البغي والفحشاء والمنكر. وكما يأمر القرآن بالحقّ والعدل والإحسان، وإنفاق المال لبناء المجتمع بناءً إنسانياً متوازناً، فإنّه ينهى عن السلوكيات الهدّامة، التي تنخر في جسم المجتمع، وتنشر الفوضى والفساد.. إنّه ينهى عن الفحشاء والمنكر، كالكذب والغشّ والظّلم والرِّبا والاحتكار والغيبة والنميمة وسفك الدِّماء... إلخ.
وللكلمة في القرآن شأن خطير، فهي أداة التواصل ونعمة البيان، لذا يريدها أداة ووسيلة لصالح الإنسان. والإنسان يستمع في كلِّ يوم إلى ألوان شتّى من القول والكَلِم.. بعضه سيِّئ هدّام، وبعضه حَسن، وبعضه أعلى درجة في الحُسْن والعطاء البنّاء.. والقرآن ينهى عن الكلمة السيِّئة، ينهى عن إطلاقها، وعن الاستماع إليها، أو التأثّر بها، أو السكوت عليها وعدم ردّها.
إنّ هذه المبادئ الدستورية التي تحدّثت عنها الآية الكريمة، كفيلة لو عمل بها الناس، بأن تبني مجتمعاً إنسانياً سعيداً.. يعيش في ظلِّ الحقّ والعدل والإحسان، ويتجنّب البغي والعدوان والممارسات السلوكية المنحرفة، ويتحرّر من سيطرة الطاغوت. إنّ أرقى ما ينشده الإنسان في حياته هو أن يعيش في ظلِّ الحقِّ والعدل والإحسان، ويتحرّر من البغي والطغيان والفساد، وذلك هو منهج القرآن في بناء المجتمع وقيادة الإنسان السياسية والاجتماعية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق