ثقافة الزِّينة والجمال، ثقافة الإنسان الحضاري، الرّفيع الذّوق والمُرهف الحسّ.. وهذا الإنسان يتحسّس فيض الجمال، وجمال الحياة في مرابع القرآن جميعها.. والقرآن تحدّث عن الزينة والحُسن والجمال... بل وكان هو الصيغة الجمالية المُثلى في بنيته الأدبية، وإيقاعه الفنِّي، وصياغته اللّغوية.. فسحر جماله، وجمال بلاغته ملك النّفوس والقلوب، وأذهل العقول، واستولى على الألباب.. ذلك لمن يعرف جمال اللّغة، ويتذوّق فنّ الإيقاع اللّغوي، ويتحسّس جمال التّناغم بين المعاني والألفاظ، وإيقاع الحروف وتناسب مخارجها... إلخ.
وإذا كان القرآن هو الصِّيغة الأخّاذة المُثلى في الجمال، فإنّه صادر من ربِّ الجمال والجلال.. فالله الذي أوحى بهذا القرآن الجميل هو جميل يحبّ الجمال.. فقد ورد هذا الوصف على لسان النبي (ص): "إنّ الله جميلٌ يُجبُّ الجمال"، وما يحبّه الله من عالم الخلق والتكوين، يُبدعه على ما أحبّ وأراد.. ونحن نشهد مظاهر الجمال في عوالم الطّبيعة.. وفي خلق الإنسان والطّيور والحيوان، والأزهار والنّبات.. وحفيف الرِّيح.. وتعانق أمواج البحر وهدوء اللّيل، وإطلالة القمر ومغيب الشّمس، وكركرات الأطفال، وتغاريد الطّيور..
فالعالم من حولنا لوحة فنِّية رائعة الجمال والجلال.. فكلّ ما خلق الرّحمن جميل..
كلّ ما في الكون والطّبيعة وعالم الأحياء يوحي بهذه المعاني ويُجسِّدها..
إنّ الجمال في الطّبيعة وعوالم المخلوقات هو مصدر الإلهام للفنّان والشاعر والأديب، وكلّ منتج لموضوع الجمال.
إنّ الذي يتحسّس الجمال ويحبّ قيمه، ينفر من القُبح والقبيح، سواء ما كان في عالم المادّة والموضوع المادِّي.. أو ما كان في عالم القِيَم والموضوع القِيمي.. إنّه ينفر من الشِّكل القبيح، ومن اللّفظ القبيح، ومن الرّوائح والمناظر القبيحة.. ينفر من القذر والقذارة.. ينفر من الجريمة والحقد والكذب والعدوان.. ينفر من العبث والفوضى والابتذال.. فكلّ ذلك قبيح..
يتحدّث القرآن عن الحُسن والزِّينة والجمال.. ويتحدّث عن جمال الطّبيعة والمخلوقات جميعها، فيعرض الخلائق لوحة جمالية تفيض بالبهجة والسّرور.. ويخاطب بها الإنسان ليلفت نظره، ويُحرِّك حسّه الجمالي، ليرتقي إلى صورة الكون والطّبيعة الجمالية..
نورد من هذه الآيات خطابه للإنسان، ودعوته إيّاه لأن يستمتع بطيِّبات الحياة وزينتها وجمالها.. ويحثّه على ذلك..
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 31-32).
وبهذه النّصوص التشريعية والتثقيفية يردع القرآن أولئك المتقوِّلين على شريعته والمدّعين أنّ القرآن يمنع الناس من الزِّينة، والجمال وطيِّبات الحياة، ويُفنِّد تلك الإدِّعاءات.. بل ويؤكِّد الدّعوة إلى الزِّينة والجمال والإستمتاع بطيِّبات الحياة من غير إسراف أو حرمان..
ويتحدّث القرآن في موارد أخرى عن الزِّينة والجمال في عالم الطّبيعة والأحياء، ويوردها دليلاً على عظمة الله، وجميل صنعه، وكمال قدرته.. وأنّ الإنسان سيُخْتَبَر في تعامله مع ما تحمل الأرض من زينة وجمال.. هل سيتعامل مع هذا العطاء الرّباني الجميل بما هو خير وهدى وصلاح، أو بما هو شرّ وفساد وضلال.. لنقرأ النصّ المعبِّر عن هذه الثّقافة والدعوة.
قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7).
وكما يتحدّث عن الأرض وعاء الزِّينة ولوحة الجمال، يوجِّه نظر الإنسان إلى جمال المخلوقات وحُسنها وإلى عوالم السّماء وما فيها من زينة وجمال، ليقرأ الإنسان دلالات هذه اللّوحة، ويعرف عظمة البارئ الخالق المصوِّر.. ولتكون معالم الزِّينة والجمال، دليلاً على وجود الخالق العظيم وتربية للذّوق والسلوك.. قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ) (السجدة/ 7).
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (الصافات/ 6).
وفي موضع آخر يُحسِّس القرآن الإنسان بمظاهر البهجة والجمال في ما تُخْرِج الأرض من النّبات، وتزهو به من أزهار وثمر وحقول ومناظر خلّابة، يستحضر القرآن تلك الصّورة بقوله: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل/ 60).
(وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج/ 5).
وكما يتحدّث القرآن عن الجمال في الأرض والسّماء والنّبات، فإنّه يتحدّث عن الجمال في الحيوان.. وأنّه من نِعَم الله على الإنسان.. يرسم صورة الزِّينة والجمال تلك بقوله: (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل/ 5-6).
(وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل/ 8).
ومن جمال الطّبيعة والنّبات والحيوان إلى جمال الإنسان في خلقه وتكوينه.. إنّه يخاطب الإنسان بهذا الخلق الجميل، الذي أفاضه الخالق البارئ المصوِّر، ويدعوه للتأمّل في عظمة هذا الإبداع والحُسْن والجمال.. يدعوه لأن يتأمّل في حُسن الخلق الذي خلقه به خالقه.. وكم هو مفتون هذا الإنسان بالجمال البشري حين يتجسّد في صورته البشرية وفي شكله وصوته ومنطقه ومشيته وحركته، وابتسامته وتناسق قوامه... إلخ.
لنقرأ ما سجّله القرآن عن العناية الرّبانية في خلق هذا الإنسان، وحُسْن تكوينه وتركيب صورته الجميلة الحسناء..
(يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الإنفطار/ 6-8).
(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) (غافر/ 64).
(لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4).
وكما تحدّث القرآن عن الجمال في موضوعاته المادِّية.. تحدّث عن الجمال والقِيَم والموضوعات السّلوكية.. إنّ الجمال كما يتجسّد في الشِّكل والصّورة والصّوت والمظاهر البشرية الأخرى، فإنّه يتجسّد في السّلوك الإنساني أيضاً.. يتجسّد في القول والعمل. وفي الأخلاق والعواطف والمشاعر والتعامل مع الآخر..
إنّ القرآن يدعو إلى هذا الجمال، وتجسيده سلوكاً وأخلاقاً وتعاملاً.. فإنّه تعبير عن جمال الذّات الباطني، وحُسن تركيبها النّفسي.. يُروى عن النبي (ص) المَثَل الأعلى في معرفة الشّريعة وتطبيقها والالتزام بقيمها، إنّه كان كثير العناية بمظهره ومنظره.. وكان إذا نظر في المرآة، قال: "اللّهمّ كما حسّنتَ خَلْقي فحسِّن خُلُقي".
قال اليعقوبي ناقلاً اهتمام الرّسول (ص) بالزينة والجمال: "وكان (ص) إذا أراد الخروج من منزلِه إمتشط وسوّى جُمّته وأصلحَ شعره. وكان (ص) يقول: إنّ الله يُحبُّ من عبده أن يكون له حُسْن الهيأة...".
والقرآن يتحدّث في موارد عديدة عن حُسن الخُلق، عن الجمال في الصّبر، وفي العفو، وفي التّعامل مع الزّوجة المطلّقة. وفي هجر الآخرين إذا كانت هناك ضرورة للهجر. وإلى كلِّ سلوك يصدر عن الإنسان..
لنقرأ ونستمع إلى القرآن وهو يدعونا إلى جمال السّلوك فهو يدعو إلى الصّبر الجميل حين تشتدّ المحنة على الإنسان وتضيق عليه مغاليق الأمور، ولا يجد غير الله ملجأً وعوناً للخروج من المحنة.. نقرأ ذلك في موقف النّبيّ يعقوب (ع) في محنته مع تآمر أبنائه على أخيهم يوسف (ع): (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف/ 18).
ويخاطب القرآن النّبيّ العظيم محمّداً (ص) حين اشتدّت به محنة الصِّراع مع خصوم الدّعوة الإسلامية، يخاطبه بقوله:
(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا) (المزمل/ 10).
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا) (المعارج/ 5).
وحين يقع الخلاف في الأُسرة التي جمعها الحبّ والتآلف العاطفي والوجداني، ودعت الضّرورة إلى فكِّ الشّراكة الزّوجية وإيقاع الفرقة والطّلاق.. يدعو القرآن إلى أن يكون الطّلاق طلاقاً جميلاً يليق بمكانة المرأة المصونة وحرمتها.. نقرأ ما جاء من قول الله تعالى للنبي (ص) في سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ[8] وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) (الأحزاب/ 28).
ومثل هذا الخطاب يوجِّهه القرآن للمسلمين جميعاً.. جاء هذا الخطاب في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) (الأحزاب/ 49).
ويُخاطب النّبيّ (ص) ويدعوه إلى الصّفح عن الخصوم الذين يختلف معهم في العقيدة، ما زال الموقف يتطلّب الصّفح.. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85).
والحُسْن هو أحد أوصاف الجمال.. والقرآن يريد الجمال في السّلوك والأخلاق، في القول والعمل.. لذا يدعو إلى جمال الكلمة، وحُسْن أدائها.. قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة/ 83).
(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46).
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/ 34).
وهكذا يتحدّث القرآن عن الحُسْن والزِّينة والجمال، ومظاهر الإبداع في هذا العام ويوجِّه الأنظار إليه، ليتذوّق الإنسان معاني الجمال، ويملأ قلبه بحبِّ الجمال وبروعة الجلال الإلهي، ويصنع سلوكه على ما صنعت عليه العوالم من صيغ الجمال.. فيصوغ فعله وقوله ونيّته صياغة الحُسْن والجمال.. ويبني البيت والشارع والمدينة والحديقة والمزرعة والمصنع وكلّ أثاثه وأدواته بناءً جمالياً يوحي بعظمة الله.. ويُجسِّد الزِّينة والجمال في لباسه ونظافته وأناقته ونظام حياته، ويتذكّر دائماً قول الرسول (ص): "إنّ اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجَمال".. ومَن يُحبّ الجمال، يكره القُبْح والقبيح في كلِّ شيء.. فلا يصدر عنه إلّا الحَسنُ الجميل.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق