(وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء/ 34). يربط كثير من الناس بين اليُتم والعَوَز، ويضربون المثل باليتيم في الفقر والحاجة. وينتبه قليلٌ من الناس إلى أنّ اليُتم لا يلازم الفقر والحاجة وإن كان اليتيم يحتاج إلى رعاية وتعهُّد. واليتيم هو كلّ إنسان مات أبوه وهو دون سن البلوغ؛ وهو في هذه الحالة فقدَ المُرشِدَ والموجِّه والمربي الذي يرعى مصلحة هذا القاصر. وقد يكون المُتوفّى رقيقَ الحال، وقد يكون غنياً يترك لورثته أموالاً وفيرة. فاليتيم يحتاج إلى مَن ينفق عليه إن كان فقيراً، ويحتاج دائماً إلى مَن يرعاه ويدير شؤونه. ويحتاج اليتيم إلى التعامل مع الناس بيعاً وشراءً وإجارةً وغير ذلك من صنوف المعاملات وموقف الناس تّجاه التعامل مع اليتيم مختلف:
- فمنهم مَن يرغب في التعامل مع اليتيم لأنّه قاصرٌ، غرٌّ، صغيرٌ، قليل الخبرة، يسهل خداعه؛ فيشتري منه بأقلّ مما يساوي، ويبيعه بأعلى. فهو في كلا الحالتين يربح منه. وقد يضر باليتيم بَيْعاً وشراءً.
- ومنهم مَن يخشى الله تعالى ويحذَرُ غضبَهُ وانتقامه ويخشى إنْ تعامل مع اليتيم أن يظلمَهُ فيتوقّى كلّ تعامل معه؛ وقد يضرّ ذلك باليتيم إنْ لم يجد مَن يتعامل معه. روي عن قتادة (رض) في قوله: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) (الإسراء/ 34)، قال: كانوا لا يخالطوهم في مالٍ ولا مأكلٍ ولا مَركَب، حتى نزلَت: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (البقرة/ 220).
توجه الآية الكريمة المسلم إلى منهج وسط بين الفئتين؛ فهي لا تنهاه عن التعامل مطلقاً ولا تُطلقُ له الحرّية في التعامل مطلقاً، وإنّما توجهه لأن يتعامل معه بما يعودُ على اليتيم بأفضل منفعةٍ أحسنها. فإذا كان يتعاقد معه فليكُن العقدُ لأجل نَفْعِ اليتيم، وليَحرِص على أن لا يظلمَهُ ولا يَبْخَسَهُ ولا يغشَّه. وإذا كان وليّاً له فليكن عملُهُ تنمية مال اليتيم والإنفاق عليه بالمعروف. وعلى المسلم أن يبقى راعياً لمصلحة اليتيم في التعامل معه تعاقداً، وفي الإشراف على أمواله ورعاية شؤونه إلى أن يكبر ويصل إلى سنّ الرشد حيث يصير قادراً على إدارة شؤونه بنفسه؛ فإذا وصل إلى هذه المرحلة فعلى الوليّ أن يسلِّمَهُ أمواله ويحاسبه لتبرأ ذمّته أمامه، ثمّ يتولّى صاحب المال القيام بشؤونه بنفسه. وتأمر الآية في شقِّها الثاني بالوفاء بالعهد. والعهدُ له حالاتٌ ثلاثة:
1- ما عَهِدَ الله تعالى به إلى خَلقِه من الأوامر والنواهي والتكاليف؛ وفي هذا المعنى قال الزجّاج: "كلّ ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد".
2- ما عاهد الإنسانُ عليه ربّه من خيرٍ يفعلهُ ومن شرِّ يتجنّبه.
3- ما عاهد الإنسان عليه غيرَهُ، ويدخل فيه المواعيد.
إنّ العهد في أيّ حالة من حالاته كان يجب الوفاء به ولو كلّف الإنسان جُهداً أو مالاً ينفقه أو حَرَمَهُ من نفع يرتجيه. وليذكر المُعاهِدَ أنّ الله تبارك وتعالى سوف يسأله يوم القيامةً عن عهده الذي عَقَدَه، أوفى به أو نَقَضَهُ؟ عن سعيد بن جُبير (رض) في قوله: (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا)، قال: "يسأل الله ناقِضَ العهد عن نَقضِه". وفي سبيل التأكيد على أهمية الوفاء بالعهد والنهي عن نقضه بيّنت الآية الكريمة أنّ الذي يسألُ يوم القيامة، العهد نفسه. قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا)، أي: يسأل العهد لِمَ نكَثْتَ؟ تَبكيتاً وتوبيخاً للنّاكث. كما تَسأل الموؤودةُ تبكيتاً لوائدها، قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير/ 8-9). وسؤال العهد نفسه عن سبب نَقْضه لا ينفي أنّ صاحب العهد يُسأل، بل سيُسأل عن سبب نقضه ميثاقَهُ الذي عاهد به؟ وهكذا نجد أنّ القرآن الكريم يأمرنا بمكارم الأخلاق كما في هذه الآية الكريمة حيث تأمُرُ في شقِّها الأوّل بالرحمة والعطف على اليتيم وفي شقِّها الثاني بالشرف والصدق في التعامل مع الناس. ويرتِّبُ الدين على التمسك بهذه الأخلاق الكريمة أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً؛ فرحمةُ الخَلْقِ تستَتْبِعُ رحمة الخالق كما في قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (النساء/ 9)، وكما في قول النبيّ (ص): "الراحمون يَرحمَهُمُ الرّحمانُ". كما أنّ الدين يحذِّر تحذيراً بليغاً من مخالفة هذه الأخلاق الإسلامية في إطارها الاجتماعي. كما نجد هذا التحذير في أكل مال اليتيم بالظلم والغش والخداع وغيره من الأساليب الملتوية في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء/ 10). وفي التحذير من خَلْفِ العهد في قول النبيّ (ص): "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وَعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خان".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق