أ) وحدة الجماعة: إنّ التحقُّق بوحدانية الله تعالى على الوجه الأكمل، من شأنه أن يؤلّف بين الجماعة المؤمنة ومن والاها من الناس، بحيث تكون على أتمّ انسجام في ترابطها، وعلى أتمّ اتحاد في جهودها وغاياتها؛ ذلك لأنّ الإيمان بالله الواحد إذا كان عقيدة مشتركة فإنّه يلقي في العقل الجمعي للمتحقّقين به أخلاقاً عامّة في الفكر والسلوك تستمدّ من معنى وحدانية الله، ولا تلبث أن تصير سيرة للجماعة المؤمنة تجري عليها حياتها كلّها.
ولعلّ من أهم المعاني التي تستمدّها الجماعة المؤمنة من وحدانية الله لتكون لها نسيج وحدة شاملة هي: وحدة الشعور، ووحدة الولاء، ووحدة الغاية ووحدة الحكومة. ولو نظرنا في أسباب الفرقة في الجماعات لوجدناها ترجع في أكثرها إلى هذه العناصر. ولمّا كان الإيمان بالله يضمن الوحدة فيها، فإنّ الجماعة المؤمنة تتلافى بذلك أكبر أسباب الفرقة، وتتوفّر على أكبر أسباب الوحدة كما نبيّنه تاليا.
أوّلاً- وحدة الشعور: يقتضي الإيمان بالله الإيمان بأنّ جماعة الإنسان عامّة مخلوقة للإله الواحد، وهي مخلوقة من نفس واحدة، فهي واحدة من حيث خالقها، وواحدة من حيث الأصل الذي خلقت منه، وذلك ما يقرّره قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء/ 1). ولمّا يقع في التصوّر أنّ أصل الناس واحد وخالقهم واحد، فإنّ النفوس المؤمنة بذلك تستوي على وحدة في الشعور بالمساواة في الإنسانية والأخوّة فيها، ويلابسها تبعاً لذلك التسليم التلقائي بمبدأ التكافئ بين الناس، كما يلابسها الشعور بالتقارب بينهم، وتنتفي منها دواعي التمايز والتعالي التي يؤرّثها الإيمان بالاختلاف التفاضلي في أصل الخالق أو في أصل الخلقة.
إنّ استشعار وحدة المأتى: خالقاً وعنصر خلق، من شأنه أن يصنع من وشائج الإخاء ما يؤالف بين الناس، وما يفسح من نفوس بعضم لبعض بالقبول المتبادل وفاء فطرياً للسبب المشترك الذي منه كان وجودهم، أوليس الإخوة لا يتواشجون بالمحبّة والتآلف، ولا ينفسح بعضهم لبعض بالقبول إلّا وفاء منهم لوحدة مأتاهم وهم الآباء؟ فكذلك الجماعة المؤمنة بالنسبة لوحدة نشأتهم من نفس واحدة وبخالق واحد، فالإيمان به من أشدّ الدواعي إلى التوحّد في المشاعر وفي الأعمال، وذلك ما يشير إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13)، ففي الآية تقرير لكون وحدة الأصل ووحدانية الخالق مدعاة لأن يكون الناس في معرض كثرتهم وتفرّعهم متآلفين موحّدين متعاونين.
ثانياً- وحدة الولاء: إنّ الإيمان بالله يقتضي أن تكون الجماعة المؤمنة موحّدة في ولائها لجهة واحدة، هي الله تعالى توجّه إرادتها جميعاً بمطالبه وأحكامه، وتخضع قيادها جميعاً له وحده، فلا تتوزّعها إذن جهات متعدّدة تنفرد كلّ منها بشقّ من الناس يوالونها دون الجهات الأخرى، ويكون حينئذ التدابر والصراع بينها، ألا ترى أولئك الذين اتخذوا من دونه وسائط إليه أوشكوا أن ينزّلوها منزلة الألوهية كيف أنّهم يوالي كلّ منهم ما اتخذه وسيطاً، صارفاً وجهه عن الموالاة المباشرة لله وحده، فإذا هم يتشاكسون ويتصارعون فتذهب ريحهم، ومن هؤلاء مَن هم من أهل الديانات والمذاهب، ومنهم مَن هم من المنتسبين إلى الإسلام، ولكنهم غفلوا عن بعض أبعاد التوحيد ومقتضياته، وذلك مثل بعض الفرق التي والت رؤساءها وزعماءها، ورفعتهم إلى ما يشبه مقام الألوهية بطاعتهم فيما هو مخالف لأوامر الله ونواهيه، فكان بينها بسبب من ذلك التفرّق في الولاء، الخصام والفرقة على ما هو معروف في التاريخ.
ولكنّ الناس على عهد التوحيد الحقيقي في صدر الإسلام، لمّا انخلعت طوائفهم الكثيرة من ولاء آلهتهم وأصنامهم وعصبيّاتهم، وتوجّهوا بالولاء لله الواحد تبدّل تجافيهم الشديد وتصارعهم المرير إلى وحدة وألفة، فإذا العداوة أخوّة، وإذا التشتّت وحدة، وإذا التحارب تعاون على البر والتقوى، وإذا جماعة المسلمين تضمّ في صف واحد شتاتاً عجيباً من أهل المذاهب والأديان والعصبيات، إنّها وحدة الولاء التي وحدتهم، فانسلكوا في قبلة واحدة، هي قبلة الله الواحد، وذلك ما وصفه قوله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال/ 63)، فقد "بُعث النبيّ (ص) إلى قوم أنفتُهم شديدة، وحميّتهم عظيمة، فإزال تلك العداوة الشديدة وبدلها بالمحبّة القوية والخالصة التامة هي مما لا يقدر عليها إلّا الله تعالى"، فهو الذي سلك القلوب المؤمنة به في سلك واحد، فاتّجهت إليه موحّدة الصفوف، ولو توزّعت وجهاتها لانفرط عقد وحدتها، وآلت إلى الشتات.
إنّ هذه الوحدة في الولاء حطّمت كلّ المقاييس في التفاضل بين الناس ممّا كان من قبل يرفع ويخفض، ويبعد ويقرّب، ويميّز بين الناس ويفرّق بينهم، من عرق أو نسب، ومن جنس أو لون، ومن طبقة أو حرفة، حطّمت كلّ تلك المقاييس التي طالما فرّقت بين الناس، وجعلتهم أصنافاً متدابرين، وأبقت على مقياس واحد يكون على أساسه التفاضل هو مقياس التقوى، أي مقدار الولاء لله ودرجته، فعلى أساسه وحده يكون الرفع والخفض، ويكون التقديم والتأخير، وهو ما يفيده قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). وليس هذا المقياس القائم على الولاء لله إلّا حافزاً على وحدة الجماعة، إذ يحرص كلّ فرد منها على أن يكون مكرّماً فيها بما يُحسن من التقوى، وكلّما كان الفرد أكثر إحساناً في الولاء لله كان أكثر تدعيماً لوحدة الجماعة.
ثالثاً- وحدة الغاية: إنّ الإيمان بالله من شأنه أن يوحّد الغاية بين المؤمنين، فكلّ مؤمن مهما كان مجال عمله في حياته إنما هو متوجّه في تفكيره وعمله نحو غاية واحدة هي عبادة الله تعالى، وابتغاء مرضاته بتحقيق الخلاف في الأرض، وعلى تلك الغاية الموحّدة تلتقي كلّ المساعي من قِبل الأفراد، فإذا بالجهود التي يبذلونها في التفكير وفي العمل جهود متجانسة سلكتها الغاية الموحّدة في سياق متوافق. ولو نظرنا في أسباب الفرقة بين الجماعات لألفينا من أهمّها اختلاف الغايات التي يتوجّه إليها الناس في أفكارهم وأعمالهم، فربّ فرد أو مجموعة في نطاق المجتمع كانت غاية حياتهم تحقيق الرفاه المادّي بإشباع الشهوات المختلفة، فإذا جهودهم في الفكر والسلوك تسخّر لتحقيق هذه الغاية بما تقتضيه من جشع وأنانية يدفعانها إلى جمع أكثر ما يمكن من أسباب الرفاه إذ هو الغاية العليا، وهو ما يؤدّي إلى سلوك مسالك الهضيمة للآخرين، وذلك بالتسلّط عليهم والتحايل على ما في أيديهم، وهو ما يكون سبباً في الصراع والتدافع. وربّ جماعة أخرى كانت غايتهم العليا حيازة السلطة والجاه بحيازة مواقع النفوذ، فإذا هم يسخّرون كلّ أعمالهم في تحصيل تلك الغاية بما تقتضيه من ضروب المغالطة والتحايل حيناً، والتسلّط والقهر حيناً آخر، وهو ما يفضي أيضاً إلى الصراع والتدابر، وقس على هذا كثيراً من الغايات القصيرة التي تختلف بين الجماعات في المجتمع الواحد أحياناً فتؤدّي إلى الاصطراع والفرقة.
أما حينما تكون الغاية العليا هي ابتغاء مرضاة الله بتحقيق خلافته في الأرض، فإنّ كلّ الغايات القريبة التي تفرّق حينما تكون غايات نهائية تصبح وسائل لتحقيق الغاية العليا، فإذا تحقيق الشهوات يكون في إطار منضبط بما يرضي الله في قواعد معينة تحكم تصرفات الناس، وتعصمهم من أن يتهافتوا عليها بما يؤدي إلى التدافع بينهم، وإذا مراكز السلطة والنفوذ تندرج هي بدورها في سياق تحقيق العبودية لله، فلا تكون مركز جذب وتهافت، إذ أوزارها بهذا الاعتبار تصبح أرجح من مغانمها، فلا يكون من أجلها صراع.
وربّما قيل فيما قرّرنا من اقتضاء الإيمان بالله تعالى لوحدة الغاية، واقتضائها بالتالي لوحدة الجماعة: إنّ تاريخ المسلمين وهم المؤمنون بالله تعالى حافل بالفُرقة بين فرقهم وطوائفهم ومذاهبهم، ثمّ إنّ كثيراً من الأمم تبدو على قدر كبير من الوحدة الغائية رغم افتقارها إلى الإيمان بالله الذي هو سبب الوحدة الغائية كما قرّرنا، فكيف نشأت تلك الفرقة مع تحقّق الإيمان بالله، وكيف تحقّقت هذه الوحدة مع فقدان ذلك الإيمان؟
والحقّ أنّ الافتراق في المجتمع الإسلامي كان له وجود في مختلف فترات التاريخ، إلّا أنّ بعض مظاهر ذلك الافتراق لا تعدّ في حقيقتها عند التأمّل فيها افتراقاً، وإنما هو اختلاف في الرأي تتّجه به الأطراف كلّها نحو تحقيق الغاية الموحّدة، وذلك مثل الاختلاف في المذاهب الفقهية، والمذاهب العقدية، فإنّ المفترقين فيها ما منهم إلّا مبتغ وجه الله من خلال مذهبه، وقد كان في جهودهم العلمية التي انتهت إليها مذاهبم أكبر مظهر للوحدة؛ إذ ما من عنصر من عناصر علومهم إلّا وهو محقّق لغاية مرحلية تفضي إلى الغاية العليا، ولذلك فإنّ العلوم الإسلامية على كثرتها وتنوّعها لا تُرى إلّا وحدة في المنهج والغاية مهما اختلفت الفرق التي تصدر عنها، وهو ما لا نظير له في أيّ ثقافة أخرى، ودع عنك في نطاق هذه الوحدة العامة تلك المشاحنات الصغيرة التي تتخلّلها أحياناً، فإنّها من طبيعة البشر مهما صفت بينهم الأخوّة، وهي لم يكن لها ضرر يذكر في سياق الوحدة الثقافية العامة التي انصهرت فيها الطوائف الإسلامية على اختلافها.
وأمّا بعض مظاهر الافتراق الحقيقي الذي يقع بين المسلمين في بعض الأزمان، من مثل ما وقع من الحروب والفتن، ومن التنابذ الغليظ بين بعض الفرق أحياناً، فإنّه لو حُلّلت أسبابه ودوافعه عند مقترفيه لأُلفيت راجعة إلى انحراف في الإيمان بالله طال بعض أركانه وأبعاده وخاصة ركنه الركين المتعلّق بالإيمان بالوحدانية، فكانت الفرقة إذن راجعة إلى ذلك الانحراف.
ب- تحرّر الجماعة: قد تنشأ في الجماعة قيود تتجاوز في مفعولها تقييد الإرادة الفردية في الفكر والحركة والفعل لتصيب الإرادة الجماعية في نزوعها إلى تحقيق مقتضيات الاجتماع في التعاون والسعي للإنجاز المشترك الذي به تزكو حياة المجتمع. وقد تكونت تلك القيود داخلية المنشأ يصنعها التاريخ من موروثات الأسلاف، أو يصنعها التسلّط والاستبداد، وقد تكون خارجية تُفرض على الجماعة من خارجها مثل الاستعمار بأشكاله المختلفة.
والإيمان بالله حقّ الإيمان كما يحرّر الفرد في الفكر والإرادة، فإنّه يحرر الجماعة من كلّ القيود الداخلية والخارجية التي تعطّل الإرادة الجمعية والطاقات المشتركة فتعوقها عن الاندفاع في تحقيق الأهداف الجماعية التي من أجلها نشأت؛ وذلك لأنّ الإيمان بالله يقتضي الولاء الجماعي له، والاحتكام في كلّ شؤون الجماعة إليه، فلا يكون إذن مجال لإرتهان الإرادة الجماعية إلّا لإرادته، تحرّراً من كلّ القيود المعطّلة المتأتّية من عوامل الداخل والخارج.
فالإيمان بالله يحرّر الجماعة من ربقة الموروث من الآباء والأجداد، ذلك الموروث الذي يترسّب بالتاريخ شيئاً فشيئاً، ثم يتخذ في النفوس معنى القداسة الذي يمليه الولاء للأسلاف، فيصبح إذن قيداً جماعياً يمنع من الانطلاق في تطرير الحياة بما تقتضي المعطيات الجديدة التي تفرزها مُستأنفات الأوضاع. والإيمان بالله يجعل الجماعة متلقية أصول حياتها من الله تعالى وحده، وهي أصول ينفسح فيها المجال لانتهاج الأساليب الناجعة في ممارسة الحياة الجماعية بما يفضي إلى ترقّيها، فلا تكون إذن مرتهنة لتقاليد تستمدّ شرعيتها من الإرث لا من الحقّ والفعالية. وقد صوّر القرآن الكريم بتكرار كيف أنّ انصراف الأُمم عن الله الحقّ يوقعها في قيود الارتهان لموروث الآباء فيضلّها عن سُبل الحقّ في العلم والعمل إضلالاً جماعياً، ومن ذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف/ 23).
ويحرّر الإيمان بالله من الاستبداد السياسي الذي يتسلّط فيه فرد أو فئة على مجموع الأُمّة في تدبير شؤونها العامّة، فإذا هي مسلوبة الإرادة في ذلك التدبير، لا تقرّر في أمر حياتها العامة شيئاً، وإنما هي مقودة بإرادة ذلك الفرد أو تلك الفئة التي كثيراً ما تكون إرادة أهواء ومنافع خاصّة تضيع معها المصالح العامّة.►
المصدر: كتاب الإيمان بالله وأثره في الحياة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق