لقد شيّد الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته الأخلاق الإسلامية العالية بكلّ صفائها ونقائها، وقدّمه مكتوباً بدمائه ودماء أهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه. ومن الأخلاق الجديدة أنّ المسلم أصبح لا يهاب الموت ولا يخافه، بل ويرغب فيه، لأنّه أصبح لا يفضّل حياة الذل والظلم والخضوع، وهكذا استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) بأبيات في هذا المعنى لأحد الشعراء:
سأمضي وما بالموت عارُ على الفتى***** إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما
وواسى رجالا صالحين بنفسه***** وخالف مثبوراً وفارقاً مجرماً
فإن عشتُ لن أندم وإن مُتُّ لم أّلم***** كفى بك ذُلاً أن تعيش فترغما
ولهذا أصبح المرء إذا خُيّر بين حياة الذل والموت، اقتدى بالإمام الحسين (عليه السلام) فاختار الموت، قال (عليه السلام): «ألا وأنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا وروسله والمؤمنين وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبيّة، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».
هذه الأخلاق قائمة على الإيمان المطلق بحياة ما بعد الموت، والنظر إلى أنّ الموت في سبيل الله تعالى موصول بالشهادة التي تخلّد الإنسان، قال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران/ 169)، في حين لا يؤمن الظالم بهذه الحياة، لأنّ حياته محدودة بالدنيا وملذاتها، ولا يلجأ إلى الله إلّا حين يحاصره الموت.
كشف الإمام (عليه السلام) عن شخصيته بأنّها تمثل الانتماء الديني الأخلاقي الخالص، وليس الانتماء إلى بيت آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نسباً حسب، وبهذا لا يحق لأي إنسان أن ينتهك دمه من ناحية أخلاقية، أو من المنطلق العقلي، ويظهر ذلك في قوله (عليه السلام): «هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه وأوّل المؤمنين المصدق لرسول الله بما جاء به من عند ربّه، أوليس حمزة سيِّد الشهداء عمي، أوليس جعفر الطيار في الجنّة بجناحين عمي، أو لم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟!».
وكان الإنسان الاعتيادي قبل واقعة الطف لا يفكّر إلّا في حياته الخاصّة، وربما يتّسع اهتمامه إلى أفراد القبيلة حسب، أمّا المجتمع الإسلامي الكبير وآلامه فلم يكن في دائرة اهتمامه.
وقد عملت هذه الأخلاق الجديدة في إكساب الحياة الإسلامية سمة قد فقدتها قبل نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) فأصبح لهذه الأخلاق جمهور يتبنّاها لا يهاب موتاً ولا يرضخ إلى ذل اقتداء بشهداء كربلاء.
كان الإمام الحسين (عليه السلام) يعلم منذ خروجه من المدينة أنّه مُقبل على مواجهة كارثة ومأساة مُروِّعة. ولكن الحسين (عليه السلام) كان لا يبالي بالرزايا والمحن التي سوف يواجهها ما دامت تُرضي الله تعالى ورسوله وتحقق للأُمّة الإسلامية شيئاً من العزة والكرامة ورفض التبعية. وما دامت ملحمته تكون صرخةً مدويّة في ذاكرة الزمن ضدّ الظلم، كان يعلم أنّ للحياة ثمناً تقتضيه الحياة نفسها، فالحياة ليست قضاء أعوام معدودة قليلة أو كثيرة على الأرض. ولكنّها خطوة بالجماعة في موكب الحضارة، أو زيادة في قوّة عوامل الوحدة التي تجمع بعض أطراف الأُمّة إلى بعض أو إقامة دليل على صحّة مبدأ. ولا يكون بعض ذلك ممكناً أحياناً إلّا إذا بذلنا في سبيله أثمن ما في الحياة، إذا بذلنا الحياة نفسها. إنّ الحسين (عليه السلام) يعني استمرار الجهاد من أجل إزالة مآسي البشرية، وكلّما ازدادت هذه المآسي كلّما اشتدت الحاجة إليه (عليه السلام).
ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، سوف تظل حيّة مؤثرة ما بقي على الحياة كائن يتنفّس وستظل ترنّ في مسامع الدهر. وستبقى تنسج خيوطها الذهبية في نسيج الحياة الاجتماعية. وسيبقى صوت الحسين عالياً يمسح الدمع عن المظلومين ويأخذهم إلى الأعالي بعيداً عن ظلم الجبابرة الطغاة وينشر مبادئ الحقّ والخير والعدل.
لم يكتفِ الحسين أن يضحي بنفسه فقط، بل ضحى بأهل بيته وأطفاله وأصحابه أيضاً، وأعطى كلّ ما ملكه في الدنيا من أجل الله، ودفعوا أرواحهم ضريبة التمسك بالحقّ والعدل والحرّية من أجل الإنسان المحروم الذي يتحكّم فيه الكفر والطاغوت. إذن، الحسين (عليه السلام) كان قربان العدل والحقّ والحرّية، صحيح أنّ الحسين (عليه السلام) انهزم عسكرياً؟ فهو كان على علم بذلك، لكنّه يكفي أنّه انتصر معنوياً ومبدئياً، وهزّ عرش الطُّغاة من يوم قُتل إلى يومنا هذا، يخاف من اسمه كلّ سلطان جائر فاسق. فالحسين (عليه السلام) بعد موته أصبح راية تخفق، ومشعلاً ينير الطريق، ومبادئ تطلب أنصاراً. فالحسين (عليه السلام) بمواقفه المستمدة من أصالة فكره ومبدأه، علّمنا دروس وعبر، وعلّمنا كيف نعيش ونحيا، علّمنا كيف نفتش عن الموت ونعانقه قبل أن يأتينا على الفراش، علّمنا كيف نعطي وكيف نجاهد ومتى نختار.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق