• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحرية والعدالة

الحرية والعدالة

◄العدالة هي الناموس العام والإطار الأكبر الذي يحوي ويتضمن كلّ الفضائل والضرورات الدينية والدنيوية. والحرية لا تنمو في واقع إنساني بعيد عن مقتضيات ومتطلّبات العدالة. إذ أنّ الظلم وهو نقيض العدالة، حينما يسود في أي واقع اجتماعي، فإنّه يزيد من إفساد الحياة العامة، ويحول دون المساواة والحرّية وكلّ الفضائل الإنسانية. فالظلم هو البوابة الكبرى لكلّ الشرور والرذائل، كما أنّ العدالة هي بوابة كلّ الحسنات والفضائل، ولذلك جاء في الحديث الشريف أنّ "العدل رأس الإيمان، وجماع الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان".

ولو تأمّلنا قليلاً في مضامين الحرّية الإنسانية، نجدها حقائق جوهرية في مفهوم العدل والعدالة. فلا مساواة مع ظلم. لذلك فإنّ طريق المساواة هي أن يعدل الإنسان مع نفسه ومع غيره. كما أنّه لا حقوق محترمة ومصانة للإنسان، إذا كان الظلم هو السائد، لأنّه هو بوابة انتهاك الحقوق.

من هنا فإنّ طريق صيانة الحقوق، هي إحراز العدالة بكلّ مستوياتها وجوانبها.

وهكذا نجد أنّ كلّ تجليات مفهوم الحرّية، ترجع في جذورها العميقة والإنسانية إلى قيمة العدالة، فهي طريقنا إلى كلّ الفضائل. ولا حرّية خاصة أو عامة من دون عدالة في حقول الحياة المختلفة.

والعدالة كمفهوم في هذا السياق، هي أوسع وأعمق من القوانين والإجراءات الديمقراطية. إذ هي تتعلق بالممارسات والمواقف، كما تتعلق بالبواعث والدوافع. فهي الدعامة الأساسية لأي نظام ديمقراطي حقيقي. والنظام الذي يفتقد العدالة، لا يمكن أن يكون ديمقراطياً حتى لو تجلبب بكلّ شعارات الديمقراطية. فالعدالة هو جوهر الأنظمة الديمقراطية، وهي جسر توسيع رقعة الحرّية في مجالات الحياة المختلفة. وعلى هذا فإنّ الحرّية هي ذلك الحيز الذي يستطيع فيه الإنسان التصرف بأموره وقضاياه من دون أن يصل إلى ظلم نفسه أو الآخرين. بمعنى أنّ حدود هذا الحيّز الذي يستطيع الإنسان التصرّف بفضائه هي العدالة.

الحرّية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. وبهذا تتضح العلاقة العميقة في الرؤية الإسلامية بين مفهومي الحرّية والعدالة. فلا عدالة حقيقية من دون حرّية إنسانية، كما أنّه لا حرّية من دون عدالة في كلّ المستويات.

والحرّية لا تعني التفلّت من القيم والضوابط الأخلاقية والإنسانية، كما أنّ العدالة لا تعني قسر الناس على رأي واحد وقناعة محددة. لذلك فإنّنا من الضروري أن ننظر إلى مفهوم الحرّية بعيداً من لغة الحذر والتوجّس والتسلسل المنطقي الذي قد يوصل إلى مساواة معنى الحرّية إلى التشريع للانحراف والرذيلة، ونعمل على توضيح العلاقة الجوهرية التي تربط معنى الحرّية مع مفهوم العدالة. وبالتالي فإنّ الحرّية عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أنّ العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي التي تكرّس مفهوم الحرّية في الواقع المجتمعي.

وعلى هذا فإنّنا لابدّ من أن "نميز بين الحرّية كحقّ اجتماعي، والحرّية كخطوة وجودية. كحقّ، لا تشمل الحرّية خيار ما هو محرم، ولكن كحالة وعي وجودي فهي تشمل جميع الاحتمالات. ففي المفهوم الوجودي يستطيع الفرد أن يقرر ما يشاء وهو عالِمٌ بتبعات قراره، ولا يحتاج إلى إجازة من أحد، بينما طالب الحقّ مقيد بما هو مجاز، ومن ذلك شرعية المطالبة بما هو محرم، ولكن ليس باختيار المحرم.

والمفهوم الاجتماعي للحرّية يتعلق بخيارات متاحة في حيّز مباح، كالتعبير الخاص والعام عن الآراء والأفكار، والعمل السياسي بمختلف أوجهه، وحرّية العبادة والمعتقد، والبيع والشراء والتعاقد وغيرها، وهي في مجملها حقوق محددة المعالم ومكتسبة، وما هو مكتسب بفعل اجتماعي يفقد بقرار اجتماعي. إنّ نقد الحكومة والقانون في النظام الديمقراطي حقّ قائم، ولكن مخالفة القانون أو التمرد عليه غير مباح، المباح هو العمل على تغيير الحكومة والقانون بالطرق المشروعة".

تُحسّن أجواء الحرّية وممارستها من قدرات المواطنين، كما أنّ العدالة ومتطلباتها توجّه هذه القدرات باتجاه القضايا والموضوعات ذات الأولوية. فكما تتوسع مساحة تأثير العدالة في المجتمع، فإنّه يفضي إلى تكريس قيم الحرّية ومفرداتها المتعددة في الأُمّة والمجتمع والوطن. فالحفاظ على الحرّية يقتضي ممارسة العدالة في مختلف المستويات. كما أنّ ممارسة الحرّية تكون في فضاء الالتزام والتقيّد بمتطلبات العدالة. لذلك لا يجوز في أثناء ممارسة الحرّية الإضرار بالغير. فلا يجوز من الناحية الشرعية والفقهية مثلاً أنّ المالك لأرض في حي سكني، أن يبني عليها مصنعاً يُلوّث البيئة والهواء ويؤدي إلى الإضرار بالجيران. فممارسة الحرّية في الملكية، يجب أن تكون في إطار العدالة، وأي ممارسة تتجاوز هذا الإطار أو تضر به، فإنّها تصبح ممارسة غير شرعية. فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرّية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أنّ الإنسان الذي يعيش واقعاً اجتماعياً بعيداً عن العدالة وتسوده حالة الظلم واللامساواة، فإنّه لن يستطيع أن يدافع عن حرّيته ويجذّرها في واقعه العام.

لكن لا يمكن أن يتم الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعات ومكتسباتهم الحضارية من دون العدالة. فهي حصن الحقوق، وهي بوابة الأمن الشامل. من دونها تشيع الفوضى، وتزدهر الفتن والاضطرابات، وتزداد أسباب الاحتقان والانفجار في المجتمع. فالعدالة بمفرداتها (القسط والبر والإحسان) هي التي توفر الأمن والاستقرار في حياة الأفراد والجماعات. فلا فلاح إلّا بالعدل، فهو سبيلنا الوحيد لإنجاز الاستقرار والأمن والتقدم. وإنّ الخروج من سجن التخلف والتأخر إلى رحاب التقدّم والحرّية والتطوّر بحاجة إلى العدالة.

وإنّ جوهر التقدم الإنساني والتطور البشري، هو الحرّية، حرّية الاختيار والتعبير، ونفي الإكراه بكلّ صوره وأشكاله، وغياب الحتميات التي تحول دون ممارسة الإرادة الإنسانية.►

ارسال التعليق

Top