◄الحج، ذلك المؤتمر الإسلامي الكبير، والتظاهرة الإيمانيّة الرائعة التي تشترك فيها صنوف متعدّدة من الأجناس، والفئات والطبقات، والقوميّات على موعد واحد، وفي أرض واحدة، يردّدون هتافاً واحداً، ويمارسون شعاراً واحداً، ويتّجهون لغاية واحدة، وهي الاعلان عن العبوديّة والولاء لله وحده، والتحرّر من كلّ آثار الشرك والجاهليّة، بطريقة جماعيّة حركيّة، تؤثر في النفس، وتشبع المشاعر والأحاسيس بمستوحيات الإيمان، ومداليل التوحيد.
والحج كما صرّح القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة إلى جانب كونه عبادة وتقرّباً إلى الله سبحانه، فإن فيه منافع اجتماعية، وفوائد ثقافيّة، واقتصاديّة، وسياسيّة، وتربويّة، تساهم في بناء المجتمع الإسلامي، وتزيد في وعيه وتوجيهه، وتساهم في حلّ مشاكله، وتنشيط مسيرته.
ففي الحج يشهد المسلمون: أروع مظاهر المساواة، والتواضع، والأخوّة الإنسانيّة، بإلغاء الفوارق والأزياء، وخلع أسباب الظهور الاجتماعي.. والظهور باللباس العبادي الموحّد (لباس الإحرام)، حيث يحس الجميع بوحدة النوع الإنساني.. وبالأخوّة والمساواة.
وفي الحج يستشعر المسلمون وحدة الأرض، ووحدة البشر، ويمثّلون عمليّة إسقاط الحدود التي صنعتها الأنانيّات والأطماع البشرية: الإقليميّة، والقوميّة، والعنصريّة..
فهم يقطعون آلاف الأميال، ويخترقون كلّ حواجز الحدود، ويجتازون كلّ الموانع التي صنعها الإنسان على أرض الله سبحانه.. استجابة لنداء العقيدة، وتلبية لهتاف الإيمان.
وفي الحج يلتقي المسلمون بمؤتمرهم الكبير، فيتذاكرون في شؤونهم، ويتشاورون في أمور حياتهم وعقيدتهم، ويتبادلون الخبرات والتجارب والآراء والعادات الحسنة، ويتعرّف بعضهم على مشاكل البعض، ويطّلع بعضهم على رأي البعض، ويتعرّف بعضهم على أخبار البعض الآخر، فيزداد الوعي، وتنمو المعرفة، وتشحذ الهمم من أجل الإصلاح والتغيير والاهتمام بشؤون الأمّة والعقيدة، فتخطّط المشاريع ويفكّر في الأعمال، وتؤسّس المراكز الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، ويستعين بعضهم بالبعض الآخر، وكأنّهم جسد واحد، وروح واحدة.
والحج بما هو تجمّع بشري ضخم، يستقطب الملايين من المسلمين، من مختلف الأقطار والأمصار، فهو ينتج حركة بشريّة هائلة، يتّبعها تحرّك اقتصادي ومالي ضخم، عن طريق النقل، والاستهلاك، وحمل البضائع، وتبادل النقود، وشراء الأضاحي والحاجيّات ومستلزمات الحج والإقامة والسفر، فينتفع العديد من المسلمين، ويشهد مجتمعهم حركة اقتصاديّة وماليّة نشطة.
وفي الحج اعداد وتربية لسلوك الفرد ونوازعه، ففي الحج يتعوّد الحاج الصّبر، وتحمّل المشاق، وحسن الخلق.. من اللّطف، والتواضع، واللّين، وحسن المحادثة، والكرم، والتعاطف، والامتناع عن: الكذب، والغيبة، والخصومة، والتكبّر.. الخ.
وفيه يتعوّد الألفة، والتعارف عن طريق السفر والاختلاط، فتنمو لديه الرّوح الاجتماعيّة، وتتهذّب ملكاته الأخلاقيّة، عن طريق هذه الممارسة التربويّة، والتفاعل البشري الرّائع، الذي يشهده في الحج، بأرقى درجات الالتزام، والاستقامة السلوكيّة.
وقد تحدّث الإمام جعفر بن محمّد الصّادق (ع) عن منافع الحج، وفوائده، بإجابته البليغة على سؤال أحد أصحابه (هشام بن الحكم).
قال: هذا الصحابي الجليل للإمام يسأله: ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد بالحج والطّواف بالبيت؟
فقال (ع): «إنّ الله خلق الخلق.. ـ إلى أن قال ـ وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب، ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله (ص)، وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى.. الخ».
ويتطابق مع هذا التعليل والتحليل شرح حفيده الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع) لمنافع الحج، وآثاره الاجتماعيّة التي يجنيها الفرد والمجتمع حين قال: «إنّما امروا بالحج لعلّة الوفادة إلى الله عزّ وجلّ، وطلب الزيادة، والخروج من كلّ ما اقترف العبد، تائباً ممّا مضى، مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من اخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذّات، شاخصاً في الحرّ والبرد، ثابتاً على ذلك، دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلّل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر ممّن يحج وممّن لم يحج، من بين تاجر، وجالب، وبائع، ومشتر، وكاسب، ومسكين، ومكّار، وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقّه، ونقل أخبار الأئمة إلى كلّ صقع وناحية، كما قال الله عزّ وجلّ: (.. فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) (التوبة / 122) وليشهدوا منافع لهم».
وهكذا شاء الله أن يكون الحج محراباً للعبادة.. وموسماً للتربية والتوجيه.. ومجالاً للمنفعة وتحقيق المصالح الاجتماعية للإنسان..►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق