• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاختلاف رحمة

عمار كاظم

الاختلاف رحمة

الحوار تعبير عن قيمة عظيمة، بل قيمة كبرى في التكوين الأساسي للإنسان والبشرية، فالدين هو الفطرة قال سبحانه: «فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ»(الروم/30) وقوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأْرضِ كُلُّهُمْ جَميِعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونوا مُؤْمِنِينَ»(يونس/99) . فطرة الله هذه دين الإنسانية هذا، تكرر ذكره في الكتب السماوية فحمل تعابير: المحبة والتوبة والندامة والنور والكلمة والبشارة والمغفرة والتسامح والشفقة والرأفة والمصالحة والفرح والعناية والغفران والبر والتقوى والعمل الصالح والعبادة والقيام.. وكلها هي الحوار.

فالدين هو الحوار «لا إِكْرَاهَ فِي الدّيِنِ قّدْ تَبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الْغَيّ» (البقرة/256) والحوار هو الدين: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النحل/125) وقد وردت مادة حوار في القرآن الكريم في ثلاث مواضع «فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَراً» ( الكهف/34) «قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً» (الكهف/37) «قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللهِ واللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِن اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» (المجادلة/1) ولعل الحوار الأول هو ذلك الذي دار بين الله عز وجل وملائكته في شأن خلق آدم، فجاءت المحاورة بصيغة (قال ، وقالوا ) «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» ( البقرة/30) ثم كان الحوار الثاني بين الله سبحانه وتعالى وإبليس، وتنقل لنا آيات القرآن الكريم صوراً عدة لهذا الحوار الذي شكل مادة خصبة للتأملات الفكرية والتفسيرات الفقهية ثم كان الحوار بين الله ورُسله وأنبيائه عليهـم السلام «آدم ونوح ولوط وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد» والحوار بين هؤلاء الرسل والأنبياء وبين قومهم وأهلهم وهي كلها حوارات غنية تغطي مساحة كبيرة من متون الكتاب وشكلت مادة تاريخية وأخلاقية وحكمية وسياسية واجتماعية لا تنضب، رُوي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله «اختلاف أُمتي رحمة».

فالحوار جوهر ولب الرسالات السماوية والفطرة الإنسانية وهو طريق الرُّشد والرشاد في الدنيا والآخرة ذلك بأنّ الله رب العالمين غني عن الناس ولو شاء لما خلقهم أصلا، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة، ولكن رحمة الله في الخلق وفي اختلاف الناس نعمة ورحمة ولطف إلهي وسنة لا تبديل لها.. إنها سنة التدافع إي الحوار الدائم بالتي هي أحسن بالكلمة الطيبة» أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ» ( ابراهيم/24) بالحسنة والموعظة والحكمة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بجهاد النفس وهو الجهاد الأكبر «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (فصلت/34)، « وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» (البقرة/251). هذا الحوار السنة الإلهية الكونية ملح الأرض هو حوار الحياة، حوار التدافع والمدافعة، المجادلة والحكمة ، المشاركة والعيش ، إنه حوار النضال المشترك من إجل الإنسان وقضاياه ، من أجل الحرية والعدل والاستقلال والأمن والسلام والكرامة والخير للجميع: « يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَكَ كَادِحُ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ» (الإنشقاق/6).

نعم الحوار وسيلة إيجابية للوصول إلى عقل وقلب الآخر والمحادثة والمناقشة والمجادلة بالتي هي أحسن تنقّي الأجواء وتصفيها وكم أعاد الحوار المبني على أسس صحيحة المياه إلى مجاريها فرأب الصدع وردم هوة الخلاف وجمع ما فرّقه ومزّقه العنف.

ارسال التعليق

Top