◄للدعاء أبعاد ثلاثة، ولكلٍّ منها أهمّيته الخاصّة:
أوّلاً: الدعاء لعرض الطلب والرغبة على الله تعالى:
كأن يغفر الذنوب، ويمدّ في العمر، وطلب السلامة، وشفاء المريض، وسلامة المسافر، وحلّ المشاكل، وطلب المال، وقضاء حوائج الدنيا، وغير ذلك ممّا يُطلب في الدعاء عادةً.
والباري تعالى وعد بالإجابة إن كان الدعاء والطلب حقيقيّاً، لا مجرّد لقلقة لسان، ولا يتعارض مع مصلحة أُخرى، كأن يكون في طلب شيء فيه نفع لك، ولكنّه ذو ضرر على غيرك، فيدعو هو وتدعو أنت أيضاً، فيمكن أن يُستجاب دعاؤه دون دعائك، وهم يمثّلون لذلك بمثال معروف، مثال صانع الفخّار والفلّاح، فالأوّل منهما يدعو الله بأن لا تهطل الأمطار خوفاً على سلامة فخّاره الذي وضعه في الشمس، والثاني يدعو الله في الوقت نفسه بهطول الأمطار لإنقاذ زرعه من الجفاف، فالدعاءان هنا متناقضان، ولا يمكن ان يُستجابا معاً، وعدم الاستجابة هنا لأحد الدعاءين لا يعني أنّ الله تعالى اعتنى بدعاء أحدهما ولم يعتنِ بدعاء الآخر، كلّا، بل لكلّ دعاءٍ مقتضٍ للإجابة، كما ورد: "ودعوة من ناجاك مستجابة... وعداتك لعبادك منجزة".
والدعاء هو أحد أسباب الخلقة، وهو علّة في سلسلة العلل والعوامل، وليس – كما ربّما يُتوهّم – نقضاً لسلسلة العلّة والمعلول، ولا خرقاً لقانون العلّيّة في الخلق، بل الدعاء في نفسه علّة من العلل، فمن أوجد قانون جاذبيّة الأرض، وقانون الذرّة، وسائر القوانين المرتبطة بسيرورة الطبيعة والحياة المادية، هو بعينه جعل قانوناً طبيعياً آخر مفاده: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60)، ليصير هذا القانون أيضاً داخلاً في سلسلة العلل والعوامل والأسباب، طبعاً، بشرطه وشروطه، وفي مقدّمة هذه الشروط: أن يكون الدعاء واقعيّاً وحقيقيّاً ونابعاً من القلب.
ثانياً: المعرفة:
تشكّل الأدعية المأثورة عن الأئمة – عليهم السلام – بحراً من المعارف الإسلاميّة، وإنّي أظنّ أنّه لو جُمعت كلّ الروايات المتضمّنة لبيان المعارف فإنّها تكون أقلّ من المعارف الواردة في الأدعية.
فالمعارف الإسلاميّة في أدعية الصحيفة السجاديّة، ودعاء أبي حمزة الثمالي، والمناجاة الشعبانيّة، ودعاء كميل، و.. كثيرة جدّاً، بل إنّ كلّ دعاءٍ من أدعية الصحيفة السجادية هو كتاب للمعارف الإلهية في مختلف الموضوعات، وفهم هذه الأدعية يجعل الإنسان على معرفة بالإسلام الحقيقي، ويُبعده عن الشبهات والخرافات، فأهل الخرافات هم – في الغالب – أناس بعيدون عن الأدعية ولا طريق لهم إلى المعارف الحقيقيّة، وأمّا التأمّل والتدبر في الادعية من شأنه أن يرشدنا إلى كلا الجانبين: ما يجب الاعتقاد والإيمان به، وما يجب رفضه وردّه، على حدٍّ سواء.
ثالثاً: العلاقة والارتباط بالله:
ومن هذه الزاوية، يتحوّل الدعاء إلى هدف، ولا يكون مجرّد وسيلة؛ إذ بهذه النظرة يكون الدعاء هو العلاقة نفسها بين الإنسان وبين الله عزّ وجلّ، ويكون الدعاء هو الذي يؤمّن ذلك الإحساس الثمين الذي نحتاج إليه.
إنّ جميع الأشياء في هذه الدنيا مرتبطة بالذات الربوبيّة المقدّسة، والإنسان كذلك، باعتباره أشرف المخلوقات فوجوده مرتبط بالذات الإلهيّة، وهذا الإحساس والشعور يمنح الإنسان حالة معنويّة راقية من العروج والسلوك. وهذا في الحقيقة أعظم فوائد الدعاء وأجلّها على الإطلاق، وهو ما يستفاد من الأدعية المأثورة عن النبي الأكرم (ص) والأئمّة المعصومين – عليهم السلام – وكيف أنّهم – عليهم السلام – كانوا ينسون أنفسهم في مناجاة ربّهم.
وقد لحقت بالبشرية اليوم خسائر عظمى جرّاء انعدام هذا الإحساس عند البشر، وإن كنّا نرى بأنّ هذه الخسائر في مجتمعنا هي أقلّ منها في المجتمعات الأخرى؛ لأنّ الناس هنا يعدّون أنفسهم على ارتباط وصلةٍ بالله عزّ وجلّ، ويعترفون بأنّهم عبيد له، وكلّما زاد هذا الإحساس عندنا، كلّما حالفنا التوفيق والنجاح أكثر.
لا تتصوّروا أنّ النجاح هو في صنع القنبلة الذرّية.. إنّ هذا لوحده ليس نجاحاً، بل التقدّم العلمي سيف ذو حدّين، فقد يكون نجاحاً، ولكنّه أيضاً قد يكون خسراناً، وبرأيي فإنّ العلم اليوم أصبح وسيلة خسرانٍ وهلاكٍ بالنسبة إلى المجتمعات الغربيّة.
ماذا يريد الإنسان من الحياة ليكون سعيداً فيها ومرتاح البال؟ هو بحاجة إلى الأمن والمحبّة والراحة، وهنا نتساءل: هل هذه الأمور موجودة في العالم اليوم؟ وهل هناك أمن وراحة ومحبّة في عالم العلم المعاصر؟ هل استطاع رؤساؤهم ووزراؤهم وأصحاب الشركات والبنوك منهم أن يحوزوا على هذه الأمور، أم تراهم يحترقون بنيران الحرص والطمع والتجبّر والاعتداء المسعور؟! لو كانت السعادة في العلم والتطوّر فقط لما سمعنا أنّ امرءاً وزوجته في تلك الدولة – مثلاً – يهجران المدينة ليعيشا وسط الغابات، وهما يشعران بالسعادة لابتعادهما عن تلك الأجواء التي شهداها في المدينة والتي حوّلت المجتمع إلى جهنم تعجّ بالمصائب والآلام.
أمّا من يمتلك شعور الارتباط بالله فهو سعيد قطعاً؛ لأنّ منشأ مصائب الإنسان، هو إمّا الإحساس بالذلّ واليأس والوحدة والضعف، وإمّا الطغيان والاعتداء على الآخرين. وإنّ شقاء أكثر الشعوب والأُمم والمجتمعات والأفراد وتعاستها ناشئة من العجز والضعف والإحساس بعدم وجود الناصر والمعين، ما يجعلها تعيش حالة الوحدة أو الغربة الموحشة.
فارتباط الإنسان بالله معناه الارتباط بمركز القدرة والعلم، فهو ليس، ولا يمكن أن يكون وحيداً ما دام الله تعالى معه، وما دام هو مرتبطاً به عزّ وجلّ، كما ورد في دعاء الفرج المروي عن النبي الأعظم (ص): "يا سند من لا سند له، يا ذخر من لا ذخر له، يا عزّ من لا عزّ له، يا كنز من لا كنز له، يا حرز من لا حرز له، ياعون من لا عون له، يا ركن من لا ركن له، يا غياث من لا غياث له".
فلو كنتم في قلب المعركة، والعدوّ يحاصركم من كلّ جانب، ولكنّكم كنتم تؤمنون بوجود وسيلة عندكم يمكنكم الاتّصال والارتباط بها في لحظة واحدة، فتنجيكم، وتحميكم من العو، فهل كنتم في هذه الحالة لتشعروا بالخوف والضغط والحصار؟!
وكما أنّ الارتباط بالله يحول دون هيمنة الشعور بالضعف والعجز والغربة، فإنّ ارتباط الإنسان بالله يمنع الإنسان أيضاً من الطغيان والاستكبار؛ فإنّ من يرتبط بالله عزّ وجلّ، وإن كان قوياً، ويشعر بالقوّة والعزّة، إلا أنّه يعلم أيضاً أنّ هذه القوّة التي يشعر بها ليس من ذاته، بل من الله سبحانه.
إنّ استكبار الإنسان وطغيانه في الأرض واستغناءه عن الله سببه الرئيسي هو عدم ارتباطه بالله، وتخيّله أنّ القوّة الظاهرية منه، والثروة الظاهرية ملكه، وتخيّله أنّ قوّته وثروته لا يمكن أن تزولا في لحظةٍ واحدة.
وعلى ضوء ما تقدّم: فإن دعا الإنسان ربّه وشعر بالارتباط به، فإنّه لا يُصاب بالضعف والانكسار، كما أنّه أيضاً لا يُصاب بالطغيان واستكباره، فببركة الدعاء إذاً يمكننا بناء مجتمع مؤمن متكامل مرتبط بالله.
من فوائد الدعاء:
إلى جانب ما قدّمناه، يترتّب على الدعاء فوائد جمّة، نشير إلى بعضها فيما يلي:
1- إحياء ذكر الله في القلوب وإزالة الغفلة، والتي هي أساس الانحراف والفساد اللّذين يعتريان حياة الإنسان، وتعويد الإنسان على الذكر وترسيخه في قلبه. وإنّ أكبر الخسائر التي يُمنى بها الإنسان نتيجةً لترك الدعاء هي زوال ذكر الله من القلب، ليتآكل هذا القلب بنيران النسيان والغفلة.
2- تقوية الإيمان وتثبيته وترسيخ دعائمه في قلب الإنسان؛ فإنّ الإيمان مهدّد دائماً بخطر الزوال والتلاشي، ولا سيّما عند اصطدام الإنسان في هذه الدنيا بأحداث العالم ومشاكله ومشاغله ومغرياته وملذّاته و..
لقد تعرّفنا في السابق على بعض الأشخاص المؤمنين، لكنّ هؤلاء فقدوا إيمانهم عندما امتُحنوا بالجاه والأموال والسلطة والشهوات الجسديّة والقلبيّة، لذلك يُوصف مثل هذا الإيمان الذي كان عند هؤلاء بأنّه (إيمان متزلزل)، وليس (إيماناً راسخاً).
ومن خصوصيّات الدعاء أنّه يفيد في ترسيخ الإيمان وإقراره في قلب الإنسان، ومن خلال المواظبة والاستمرار على الدعاء، والتوجّه إلى الله تعالى، يزول الخطر الذي يتهدّد هذا الإيمان بالزوال.
3- نفث روح الإخلاص في قلب الإنسان، فإنّ الحديث مع الله تعالى والتقرّب منه بالدعاء والمناجاة يعمّق في الإنسان روح الإخلاص، الذي يعني: العمل لله بنيّة خالصة.
وفي الوقت الذي نعلم بأنّ جميع الأعمال المشروعة والمباحة التي نقوم بها في حياتنا اليومية يجوز ويُستحبّ لنا أن ننويها لله تعالى، فإننا نجد أنّ بعض المؤمنين لا يتمكّنون حتى من تأدية أهمّ الأعمال العباديّة – كالصلاة – قربةً إلى الله تعالى!! وما ذلك إلّا بفعل الثقل الكبير الملقى على أرواحهم وقلوبهم بسبب ترك الدعاء والحديث مع الله عزّ وجلّ.
4- ترسيخ وتنمية الفضائل الأخلاقيّة في نفس الإنسان، فالإنسان من خلال ارتباطه بالله تعالى ومناجاته، يقوّي مكارم الأخلاق في نفسه، أي: أنّ الدعاء هو من الأمور التكوينيّة والطبيعية التي تمنح الإنسان شعوراً بالاستئناس في محضر الباري تعالى.
فالدعاء يُعدّ سلّم عروج الإنسان نحو خالقه، وبالتالي، سلّم عروجه نحو الكمالات والفضائل. وفي الجهة المقابلة، فإنّ الدعاء يزيل الرذائل والعيوب الأخلاقيّة من نفس الإنسان يُبعدها عن وجوده وكيانه، فهو يُبعد الإنسان عن البخل والتكبّر والأنانيّة والعداء لعباد الله وضعف النفس والجبن والجزع.
5- إحياء وإيجاد المحبّة لله تعالى، فالدعاء والأنس والنجوى مع الله يخلق عشق الله وحبّه في قلب الإنسان.
6- بثّ روح الأمل في وجود الإنسان، فالدعاء يهب الإنسان القدرة والقوّة على مواجهة كلّ التحدّيات التي قد تواجهه في الحياة، فإنّ كل إنسان لابدّ أن يصطدم مع مشاكل الحياة وتحدّياتها، والدعاء هو ما يعطي الإنسان القوّة والإمكانية ويجعله قادراً على مواجهتها، ولهذا عُبّر عن الدعاء في الأحاديث بأنّه (سلاح)، فقد رُوي عن الرسول الأكرم (ص) أنّه قال: "ألا أدلّكم على سلاح يُنجيكم من أعدائكم، ويدرّ أرزاقكم؟! قالوا: بلى يا رسول الله، فقال (ص): تدعون في اللّيل والنهار؛ فإنّ سلاح المؤمن الدعاء".
إنّ الاستعانة بالله هي سلاح قاطع في يد الإنسان المؤمن؛ ولهذا فإنّ النبيّ الأعظم (ص) مع ما كان يمارسه من اعمال في ساحة الحرب، كتجهيز الجيش، ورصّ الصفوف، وتوفير الإمكانات المطلوبة للجند، وتأمين العتاد اللازم، و.. فإنّه أيضاً كان يسجد في وسط الميدان ويتوجّه إلى ربّه رافعاً يديه بالدعاء متضرّعاً إلى الله تعالى ومتوسّلاً إليه أن يمدّ المسلمين بالعون والغلبة والنصر من عنده. فالدعاء إذاً يبعث على القوّة في قلب الإنسان.
7- قضاء الحوائج. وهذا أحد مكتسبات الدعاء وغنائمه. فالله تعالى هو أمرنا بأن ندعوه ونسأله قضاء حوائجنا، عندما قال في كتابه المنزل: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء/ 32)، وعندما يكون هو تعالى من أمرنا بذلك، فهذا يعني أنّه عازم على أن يُعطينا ما نريد، ولذلك ورد في الخبر عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "ما كان الله ليفتح على عبدٍ باب الشكر ويُغلق عنه باب الزيادة، ولا ليفتح على عبدٍ الدعاء ويُغلق عنه باب الإجابة..".
الرسول الأكرم (ص) والدعاء:
كان (ص) القدوة والأسوة في العبادة، لدرجة أنّ قدميه كانتا تتورّمان من طول الوقوف في محراب العبادة. وكان يقضي القسم الأكبر من اللّيل في العبادة والتضرّع والبكاء والاستغفار والدعاء ومناجاة الله تعالى. وكان يصوم شهري رجب وشعبان، فضلاً عن شهر رمضان، في ذلك الحرّ القائظ، إضافة إلى كثير من أيّام السنة، وعندما كان أصحابه يقولون له: يا رسول الله، لماذا كلّ هذا الدعاء والاستغفار والعبادة، وقد غفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فإنّه (ص) كان يجيبهم: أفلا أكون عبداً شكوراً"؟!
وفي الختمام توصية:
أوصيكم وأوصي نفسي وجميع المؤمنين والمؤمنات أن يوجّهوا سيرهم في حياتهم هذه إلى الله، وأن لا يكلّوا عن رفع أيديهم بالدعاء، والاستعانة بالله سبحانه وتعالى، وأن يسعوا إلى تطهير نفوسهم وتجنّب الرذائل.. أحيوا قلوب الناس بذكر الله، وأحيوا ذكر الله في المجتمع، واجعلوا شهر رمضان شهر دعاء وتضرّع للباري تعالى. ولتبقَ روح الدعاء والتضرّع والالتجاء إلى الله تعالى مرتكزنا الأساس، وسندنا الأوّل والأخير، ولنحافظ على النعم التي أفاضها الله تعالى علينا بالدعاء والتضرّع والنوافل والابتهال إليه تعالى في آناء الله وأطراف النهار. أستغفر الله لي ولكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.►
المصدر: مجلة رسالة الثقلين/ العدد 70 لسنة 2011م
ارسال التعليق