• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإخلاص في الدعاء

السيد كمال الحيدري

الإخلاص في الدعاء
◄إنّ الدعاء هو عبادة حقيقية، بل هو مخّ العبادة والعبادات بشكل عام يُقصد فيها المعبودُ وحده لا غير، ولأجل ذلك يكون العبد مُستحقّاً للأجر، وأمّا مَن قصد جهةً أخرى فإنّه لا يكون مُستحقّاً للثواب والأجر، بل هو مُستحقٌّ للعقوبة، لأنّه بتلك الضميمة إمّا أن يكون قد وقع في براثن الشرك الأكبر، كما هو الحال بالنسبة لقريش التي كانت تسجد للأصنام بقصد أنّها تُقرِّبهم لله تعالى، وإمّا أن يكون قد وقع في الشرك الأصغر، كما هو الحال بالنسبة للمُرائين في أعمالهم، فهؤلاء على أقل التقادير ستكون أعمالهم باطلة، ولعلّ هذا النوع من الشرك هو الأكثر انتشاراً بين الناس، ومن هنا نفهم سرّ تحذير النبيّ الأكرم (ص) لنا من ذلك، حيث كان يقول (ص): "إنّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشركُ الأصغر، قالوا: وما الشركُ الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله عزّ وجلّ يوم القيامة للمرائين إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تُراؤون لهم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء".

وقال (ص): "استعيذوا بالله من جُبِّ الحَزَن، قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: وادٍ في جهنّم أُعدّ للقرّاء المرائين"، وقال (ص): "يقول الله تعالى: مَن عَمِلَ لي عملاً أشرك فيه غيري فهو له كلُّه، وأنا منه برئ، وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك"، وقال (ص): "لا يقبل الله تعالى عملاً فيه مثقال ذرّة من رياء"، وقال (ص): "إنّ أدنى الرياء الشرك". وقال (ص): "إنّ المرائي ينادَى عليه يوم القيامة: يا فاجر! يا غادر! يا مرائي! ضلَّ عملك، وحبط أجرك، اذهب فخذ أجرك ممّن كنت تعمل له"، وقد كان (ص) يبكي، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال (ص): "إنّي تخوَّفت على أُمّتي الشرك، أما إنّهم لا يعبدون صنماً، ولا شمساً ولا قمراً ولا حجراً، ولكنهم يُراؤون بأعمالهم".

والإخلاص هو خُلوص العمل من الشوائب، ومعنى خلوص الدعاء من الشوائب هو عدمُ التفاتِ القلبِ أثناء الدعاء إلى غير المدعوّ، وهو الله تعالى. فإذا ما توفّر الإخلاص وطَهُرَ الدعاءُ من الشوائب فلأنّه سوف يكون طيّباً، وخلواً من الخبائث المعنوية، وعندئذ سوف يكون مشمولاً لقوله تعالى: (.. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ...) (فاطر/ 10)، وعندئذ سوف يكون الداعي داعياً حقّاً؛ تحقيقاً لقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186)، وفي غير صورة الإخلاص لا يصدق عنوان الدعاء إلّا من باب المُسامحة، وإن كان للإخلاص مراتب، فإنّ خلوّ الدعاء منها يُفرغه من عنوان الدعائية.

 

الذهب المُصفّى:

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ (ع) كلمة في ذلك، جدير بأن تُكتب بماء الذهب، بل هي الذهب المُصفّى كقائلها، وهي قوله: "وخير الدعاء ما صدّر عن صدرٍ نقيٍّ وقلبٍ تقيٍّ، وفي المناجاة سبب النجاة، وبالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتدّ الفزع فإلى الله المفزع"، والخيرية في كلمة الطُهر علي (ع): والتي جاءت على صيغة أفعل التفضيل، لا تعني وجود خير أوّلي في الدعاء الخالي من الإخلاص، لأنّه كما قلنا ليس بدعاء، بل هو سالب بانتفاء موضوعه، وموضوع الدعاء في المقام هو التوجّه الخالص لله تعالى، وإنّما أراد (ع) بالخيرية الإشارة إلى مراتب الإخلاص، وأنّ خير هذه المراتب ما كان صدر الداعي فيه نقيّاً، وقلبه تقيّاً، فافهم.

وينبغي أن يُعلم بأنّ الإخلاص وليد الحبّ، فلا إخلاص لمن لا حُبّ له، وبذلك نفهم بأنّ مراتب الإخلاص هي الأُخرى عائدة لمراتب الحبّ، فالمراتب الدانية تولّد حُباً دانياً، والعكس بالعكس، وأمّا الحبّ فهو الآخر وليد أمرٍ آخر أصلاً ومراتبَ، وهو المعرفة، فمَن عرف الله تعالى أحبّ الله ومَن أحبّه أخلص له.

وعليه فمن كان فاقداً للإخلاص في عباداته فذلك كاشفٌ إنّيٌّ عن فَقْدِهِ الحبّ لله تعالى، ومن فَقَد الحبّ لله تعالى فذلك كاشف إنّيّ عند فَقْدِه لمعرفة الله تعالى، ممّا يعني أنّ الأُسَّ في كلّ هذه المعادلة هو معرفة الله تعالى، كما أنّ هذا الترتّب الطولي بين المعرفة والحبّ والإخلاص هو ترتّبٌ ذاتي، وسنّةٌ إلهيّةٌ، ومسلك قرآنيّ مُنسجمٌ تمام الانسجام مع فطرة الإنسان، رزقنا الله تعالى معرفته وحبّه والإخلاص له.

ثمّ إنّ الإخلاص له حقيقةٌ كامنةٌ وهي نفس النية، فالنيةُ هي الصورة الباطنية للعمل، بل إنّ القيمة الحقيقية للعمل تكمنُ في النيّة، أمّا صورة العمل الظاهرية فقيمته مُستمدّة من قيمة العمل وصورته الباطنية، وهي النية، وإلّا فهو لا قيمة حقيقية له، ومن هنا نفهم كلمات رسول الله (ص) في المقام، حيث يقول: "إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئٍ ما نوى"، و"النيّةُ أساس العمل"، و"الأعمال ثِمارُ النيّات"، بل إنّ "نيّة المؤمن خيرٌ من عمله، ونيّة الفاجر شرٌّ من عمله".

وعليه فخُلاصة كلّ عملٍ وذروتُهُ وثمرتُهُ تكمن في إخلاص النيّة لله تعالى، بل في إخلاص النيّة تكمُنُ قيمةُ الإنسان وحقيقته، ودون ذلك الإخلاص والقصد سيجد الإنسان عمله هباءً منثوراً، فإنّ كلّ عملٍ فيه شركةٌ فهو لذلك الشريك الضعيف، قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) (الفرقان/ 23). ذلك العمل الأجوفُ تماماً الخالي من قيمته الفعلية، قد أحيل إلى هباء منثور، لأنّه في حقيقته مجرّد قشور فارغة، فلم يكن شيئاً يُذكر سوى عند صاحبه الظامئ له والساعي خلفه فيحسبه ماءً وهو: (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (النور/ 39)، وأصحابه وُصفوا بقوله تعالى: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (المجادلة/ 18).

ومن هنا يتّضح لنا الوجهُ الناصعُ لقوله تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (الطارق/ 9)، حيث يكشف اللثام عن النوايا ويُبان كلّ إنسان على حقيقته، فلم تُعبِّر الآية الكريمة بالأعمال وإنّما عبّرت بالسرائر التي هي الداعي الحقيقي الكامن وراء الأعمال وما انطوت عليه الضمائر؛ فـ"مَن حسُنت نيّته كثرت مثوبته"، وعندئذ تتمايز السرائر بحسن النوايا وقُبحها، وهنا يُروى عن أمير المؤمنين (ع) قوله: "حُسن النيّة جمال السرائر"، لأنّ السرائر هي البطانة التي تُمثّل واقع والإنسان، والنيّة أمر باطني، فجمال السريرة مقترن بجمال النية، والعكس بالعكس.

وهذا الجمال والحُسن كفيلان بحفظ العمل ومضاعفة الأجر عليه: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا) (الكهف/ 30)، و(إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة/ 120)، فليكن ذلك الجمال الواقي والحُسن الساقي مطلباً ومقصداً، (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) (الصافات/ 61).

وينبغي أن يُعلم بأنّ الإخلاص في أحدِ وجوهِهِ يعني دفع الأغيار عمّن تُحبّ وتقصدُ، لأنّ الإخلاص يعني الطرد التامّ للشوب الذي هو مقابل له، كما نصّ على ذلك علماء اللغة، وهو المروي عن الإمام جعفر الصادق (ع) حيث يقول في حديث طويل يُبيّن فيه جنود العقل والجهل: "والإخلاص وضدّه الشوب".

 

مراتب الإخلاص:

وأخيراً فإنّ للإخلاص مراتب ثلاث، وهي:

المرتبة الأولى: إخلاص العوامّ، وهو ما يوافق المعنى اللغوي، أي تصفية العمل القلبي من كلّ شوب.

المرتبة الثانية: إخلاص الخواصّ، وهو إخراج رؤية العمل من العمل، بحيث لا تفتخر في نفسك بالعمل، ولا تعتقد أنّك تستحقّ عليه ثواباً.

المرتبة الثالثة: إخلاص خاصة الخاصة، وهو الخلاص من رؤية نفسِ الإخلاص، وهو أشدّ المراتب وأعظمها.

فالأولى: هي تصفية الفعل من مُلاحظة المخلوقين، والثانية: هي تصفية النفس من طلب الأجر أو انتظار الثواب عليه، والثالثة: هي أن لا يرى ذلك الخلوص من الشوبِ، والخلوص من طلب الأجر، أي أن لا يرى إخلاصه. فيتّهم نفسه، ويعتقد أنّ كلّ ما عنده هو من الله تعالى. حتى الإخلاص الذي وصل إليه فهو من عند الله.

 

الإخلاص شرط في قبول الأعمال العبادية:

وفي ضوء ذلك يتبيّن لنا بأنّ الإخلاص ليس أمراً مُكمّلاً للدعاء، وإنّما هو شرطٌ أساسي في صحّته وقبوله، بل لا يُتصوّر الدعاء بلا إخلاص، لأنّ حقيقية الدعاء تكمنُ في النيّة، وحقيقية النيّة تكمنُ في الإخلاص.

نعم، هل يُشترط كمال النية والإخلاص في العمل؟ فالجواب هو كفاية تحصيل المرتبة الأولى من الإخلاص، وهي مرتبة العوامّ، أي خلوص العمل من الشوائب والأغيار، فهذه المرتبة شرط أساسي لابدّ منه؛ لما تقدم من قوله (ص): "يقول الله تعالى: مَن عَمِلَ لي عملاً أشرك فيه غيري فهو له كلُّه، وأنا منه بريء، وأنا اغنى الأغنياء عن الشرك"، وقوله (ص): "لا يقبل الله تعالى عملاً فيه مثقال ذرّة من رياء"، وكما جاء في الحديث القدسي المرويّ عن الإمام الصادق (ع) حيث يقول: "قال الله عزّ وجلّ: أنا خيرُ شريك، مَن أشرك معي غيري في عملٍ عَمِلَهُ لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً"، أي خالصاً من الشوب والأغيار، وأما المرتبة الثانية والثالثة فهما كماليتان للدعاء والداعي، فالسالك لا تليق به المرتبة الأُولى، حيث ينبغي له الارتقاء إلى مرتبة عدم انتظار الثواب أو الاستجابة، كما أنّ العارف الواصل لا تليق به المرتبة الثانية فضلاً عن الأُولى، حيث ينبغي له الارتقاء إلى المرتبة الثالثة وهي عدم الالتفات إلى نفس إخلاصه.

والآن، وقبلَ الانتقال إلى شروط الدعاء وآدابه، أودُّ القولَ بأنّه إذا كان الدعاء هو مخّ العبادة كما جاء ذلك عن النبيّ (ص) حيث قال: "الدعاء مخّ العبادة، ولا يَهلكُ مع الدعاءِ أحد"، أقول: فإنّ الإخلاص هو مخُّ الدعاء.

 

إشراق:

مَن تزيّن بكمالات ربّه لم يجد بُدّاً من الإخلاص، فالغير ظلٌّ وشريك له في التزيُّن، فلا معنى للإخلاص له استقلالاً، وأما مَن زيَّفه الشوب فذلك دليل الفقْد، وهو معذور حيث لم يشرق قلبه بالحقِّ بعدُ، فيخلص له.►

 

المصدر: كتاب الدعاء.. إشراقاته ومُعطياته

ارسال التعليق

Top